Page 92 - merit 46 oct 2022
P. 92

‫العـدد ‪46‬‬   ‫‪90‬‬

                                                    ‫أكتوبر ‪٢٠٢2‬‬

              ‫(أستخدم بولى يا حضرة الصول!)‪.‬‬                ‫وعينيه فيما بين القضبان‪ ،‬مبحل ًقا إلى داخل‬
       ‫طالت الأيام‪ ،‬اعتاد السجين أن يرى السجان‬       ‫زنزانة «طايع»‪ ،‬يقذفه بسبابه المعتاد‪ ،‬وجده يجلس‬
 ‫مرشو ًقا فيما بين قضبان كوة الزنزانة‪ ،‬حتى بدت‬
‫سحنته مرشوقة بخطين طويلين متوازين من شدة‬                 ‫مسترب ًعا على الأرض محد ًقا إلى هناك! هاله أن‬
                                                      ‫وجده غير مبا ٍل بحضوره ولا بأوامره له‪( :‬انتباه‬
        ‫وطول البحلقة لصاحب الحكايات العجيبة‪.‬‬         ‫يا نمرة طايع‪ ،‬رد يا ملعون يا ابن ال‪ ،)،‬عاد فسأله‬
    ‫ومضت الأيام‪ ،‬فاعتاد السجين الارتكان بظهره‬
    ‫على حائط الزنزانة البعيد‪ ،‬يضع سا ًقا على ساق‬          ‫عما يفعله على أرضية الزنزانة ويشغله هكذا؟‬
     ‫قبل أن ينطق بكلمة واحدة‪ ،‬ثم يشير بإصبعيه‬         ‫فوجئ أن سمعه يرد قائ ًل ببساطة‪( :‬أتابع طابور‬
 ‫السبابة والوسطى نحو فمه‪ ،‬يفهم السجان ويلقمه‬        ‫النمل‪ ،‬ربما أكتشف مصدره؛ كثر عدده في الزنزانة‬
 ‫السيجارة تلو الأخرى‪ ،‬وينتبه لحكاية نمل جديدة‪،‬‬
  ‫عندما يمل السجين ولا يرغب في متابعة حكاياته‪،‬‬          ‫وغطى الأرضية‪ ،‬لا عارف أقعد ولا عارف أنام‪،‬‬
   ‫يتابع السجان ضحكاته وحده وقهقهته‪ ،‬ولم يعد‬                                     ‫الملعون بلا رائحة!)‪.‬‬
     ‫السجين يتابع الضحك معه‪ ،‬ولا حتى من باب‬
   ‫المجاملة‪ .‬كل ما أصبح يتابعه المسجون باهتمام‪،‬‬         ‫ضحك «عبد القوي» طوي ًل وهو يسأله ساخ ًرا‪:‬‬
‫صوت خطوات السجان التي لم تعد كما كانت واثقة‬                           ‫(ووجدته‪ ،‬وجدت بيت النمل؟!)‪.‬‬

                             ‫وثقيلة على الأرض‪.‬‬           ‫مصمص السجان شفتيه‪ ،‬وهو معل ًقا بأطراف‬
    ‫كما لم أعد لقراءة المذكرات‪ ،‬ميراثي الوحيد عن‬    ‫ضحكاته التي لم تهمد بعد‪ ،‬كما بقي السجين معل ًقا‬

                          ‫جدي السجين «طايع»!‬             ‫بصوت خطوات سجانه وهي تبتعد‪ ،‬وإن بقيت‬
                                                                             ‫واثقة ثقيلة على الأرض‪.‬‬
         ‫الجد تحت ظل شجرة‬
                                                    ‫في صباح اليوم التالي‪ ،‬لم ينتظر السجان‪ ،‬أسرع إلي‬
      ‫لست أدري لماذا يختارني دون غيري في هذه‬        ‫السجين جدي يسأله عن موضوع النمل‪( :‬ما حكاية‬
                       ‫الحديقة الفسيحة الوديعة؟‬
                                                                          ‫النمل معك اليوم يا نمرة؟)‪.‬‬
  ‫يجلس شبيه جدي إلى جواري‪ ،‬يحكي حكاية آلته‬            ‫لم ينتظر السجين لحظة واحدة‪« :‬تخيل يا حضرة‬
     ‫العجيبة‪ ،‬تلك الساعة الثمينة التي اشتراها بكل‬
                      ‫مكافأة الخروج ﺇلى المعاش‪.‬‬              ‫الصول‪ ،‬إن النمل يفهم‪ ،‬وعنده مفهومية!»‬
      ‫لم يحدد تاريخ الشراء‪ ،‬فقط أخبرني بإحالته‬        ‫باهتمام زائد سأله «عبد القوي»‪( :‬كيف‪ ،‬إشرح لي‬
    ‫إلى المعاش‪ ،‬وأنه يحضر هاهنا بعد خروجه من‬
                                                                                     ‫يا مسجون؟!)‪.‬‬
‫المستشفى لتنشيط عضلات فخذيه‪ ،‬على ﺇثر سقوطه‬             ‫فبدأ السجين جدي الخبيث يحكي‪ ،‬كيف أنه يرى‬
  ‫من فوق درجة السلم المحطمة في سلالم المصلحة‬         ‫النمل قاد ًما من فراغ هين من تحت الباب الحديدي‬
 ‫التي عمل بها‪ ،‬ولمدة أربعين سنة كان يجتازها ولا‬       ‫للزنزانة‪ ،‬في طابور له بداية وبلا نهاية؟ وكيف أن‬
                                                        ‫زعيمهم يتقدمهم وله كل الهيبة والوقار؟ ثم بدأ‬
 ‫يسقط ﺇلى الأرض أب ًدا‪ ،‬إلا يوم استلام أوراق نهاية‬  ‫بصف تلك النملة الزعيمة في خطواتها الواثقة الثقيلة‬
             ‫الخدمة‪ ،‬ومكافأة اﻹحالة على المعاش‪.‬‬     ‫على الأرض! فيعلق السجان في بلاهة لافته ويسأله‪:‬‬

 ‫فلما فشلت في مواجهة محاولات اقتحامه مجلسي‬                   ‫(كيف يا نمرة طايع‪ ،‬تكلم يا مسجون؟!)‪.‬‬
‫تحت ظل شجرة‪ ،‬حرمت نفسي من شمس الخريف‬                 ‫مضت الأيام مع سؤال السجان المعتاد كل صباح‪:‬‬

   ‫الدافئة وغيرت ميعادي‪ ،‬ينجح الملعون في اللحاق‬        ‫(ما حكاية النمل اليوم يا مسجون؟) ودو ًما يجد‬
 ‫بي‪ ،‬يدهشني إصراره على جملته التي تقدم بها إل َّي‬     ‫المسجون حكاية يحكيها‪ ،‬ولو لم يجدها‪ ،‬يختلقها‪،‬‬
‫أول مرة حتى أقبله شري ًكا لي تحت الشجرة‪ ،‬يقول‪:‬‬        ‫وفي كل الأحوال يصدقه السجان! وهو ما أدهش‬
                                                    ‫جدي كثي ًرا‪ ،‬خصو ًصا عندما أخبره بحكاية الأمس‪:‬‬
   ‫«إني أمتدح ذكاءك في اختيار هذا الموقع الهادئ‪،‬‬       ‫«تخيل يا حضرة الصول‪ ،‬أنا رسمت دائرة حول‬
                                                      ‫النمل بالمياه‪ ،‬وحبسته‪ ،‬لم يعبر النمل الدائرة‪ ،‬ولم‬

                                                                    ‫يدخلها نملة واحدة من خارجها!»‪.‬‬
                                                     ‫(كيف‪ ،‬ولا تتوفر في الزنزانة مياه‪ ،‬هه ﺇشرح لي؟)‪.‬‬
   87   88   89   90   91   92   93   94   95   96   97