Page 87 - ميريت الثقافية رقم (27)- مارس 2021
P. 87

‫‪85‬‬           ‫إبداع ومبدعون‬

             ‫قصــة‬

‫آخرين؟ في السجن لا أجوبة‪ ،‬والحم ُق كل الحم ِق لو‬                                   ‫جنتي وج َنة الآخرين‪ ،‬فهناك آخرون بالطبع‪ُ ،‬هم‬
‫انتظر َت جوا ًبا من أحد‪ ،‬والمو ُت أن تك َف عن الأسئلة‪.‬‬                          ‫أهلي الذين لا أراهم إلا فيه‪ .‬أعر ُف طريق َة مشيتِه على‬
                                                                                ‫حاف ِة الجن ِة‪ ،‬وأعرف صو َت حذا ِئه جي ًدا‪ ،‬وأف ِّرق بين‬
    ‫حتما لو أتى الحرا ُس سيخلعون عني الستر َة‬                                   ‫الحذا ِء الغاضب والباسم‪ .‬أعرف أي ًضا الحذا َء الثرثا َر‬
‫ألاخأرهتى ُمسكتثيقتًرا ِحبمالعحيوادت ِة‪،‬ي‬    ‫ِمن حيث أتيت‪،‬‬      ‫ويعيدونني‬
                                             ‫ح ًّقا أن وجو ًها‬  ‫لكن المر ِع َب‬  ‫الذي يريد أن يزو َر مملكتي ويحكي كلا ًما يطي ُر مع‬
‫وأنا لم أ َر منذ سنين إلا وجه ْين؛ وج َه المسكين المُلقى‬                                                             ‫دخا ِن سجائرنا‪.‬‬
    ‫في الداخل‪ ،‬ووجهي صغي ًرا في حدق ِة عينيه‪َ .‬دقت‬                              ‫يأك ُل نص َف طعامي‪ ،‬وأنا أتأم ُل كيف يصار ُع دخا ُن‬
    ‫ُس ًّما‬  ‫قب ُطخ‪.‬طأ ًىخذتوعارالفجأَث َةن‬  ‫الأجرا ُس‪ ،‬جاءوا مسرعين‪،‬‬              ‫سيجارتي دخا َن سيجار ِته‪ ،‬ويلوي عن َقه‪ ،‬ويأخ ُذ‬
    ‫دون‬                                      ‫زعا ًفا سيكون الليلة مخلب‬          ‫ويد ُس‬    ‫منه الكربا َج وعلى خص ِره يضرب ويضرب‬
‫أن‬                                                                               ‫دائ ًما‬  ‫المصبا َح في ف ِمه‪ ،‬ويض ُئ أحشا َءه بلا سبب‪،‬‬
‫يشعروا أني لس ُت هو‪ ،‬ع ّزوني فيه ورب َت رج ٌل على‬                                 ‫معه‬     ‫دخاني هو الفائز‪ ،‬ينق ُّض على دخا ِنه ويفع ُل‬
‫كتفي أو كتفه لا أدري‪ ،‬وقال في أ ًسى‪ُ « :‬خدلك يومين‬
                               ‫أجازه يا مهران»‪.‬‬                                 ‫العفنحب َطشولذاا َِتتهه‪،‬الواسلأربيلرُه ِيلةا يخلد َرفيالأبكسِلوام ِرا‪،‬يوحددخاث‪ُ،‬نهيثر ِث ُر‬

    ‫قال «يا مهران» ولم يعاقبني لأني انصرف ُت دون‬                                                                ‫ُيغت َصب جري ًحا قر َب السق ِف‪.‬‬
    ‫تحية‪ ،‬فق ْد كن ُت توا ًقا أن أرى المساجين الآخرين‬
             ‫وأحكي لهم عن بطولاتي السريرية‪.‬‬                                       ‫لو َوجد عندي طعا ًما أكله‪ ،‬لا يعلم أني أج ِّر ُب فيه‬
                                                                                   ‫خل َو طعامي من الس ِم‪ ،‬كن ُت أعط ُيه نص َف الأك ِل‪،‬‬
    ‫‪ -2‬حين لم أذكر قطط الحارة‬                                                   ‫فإذا عاش لليو ِم التالي آ ُكل أنا النص َف الآخر سعي ًدا‬
                                                                                  ‫بحياتي الجديدة‪ ،‬كل يوم يقف ُز رضوا ُن السو َر‬
      ‫حين مات الس ّجان في قص ِة «وحده لا يموت»‪،‬‬                                 ‫ويقط ُف ِمن ثم ِر الجن ِة النص َف تما ًما‪ .‬كن ُت سعي ًدا‬
   ‫واختبأ المسجو ُن في ملاب ِسه ووراء شار ِبه‪ ،‬وأخذ‬                                      ‫لي‪ ،‬ولأنه َز َّوج دخا َنه دخاني‪.‬‬        ‫لأنه يأن ُس‬
    ‫سو َطه ومصبا َحه‪ ،‬وفعل ِفع َله وذهب للمساجين‬                                  ‫بمهار ِة طبَّا ِخ لا يريد أن يتذو َق ُس َّمه‪،‬‬  ‫فدععلو ُتُتذالللكَه‬
                                                                                ‫ألا يموت يو ًما ف َمن غي ُره يسمح لدخاني‬
     ‫الآخرين يحادثهم بأحادي ِث السجا ِن القديم‪ ،‬لم‬                              ‫أن يغل َبه؟ َمن غي ُره أعرفه وأعرف ن ْفسي فيه؟ ر َّبي ُت‬
   ‫يكتشف أم َره أحد‪ ،‬لا زملاؤه ولا المأمور‪ .‬لكنه لم‬                              ‫شاربي مثله‪ ،‬وحلق ُت رأسي‪ ،‬صر ُت أشبهه وأشبِه‬
                                                                                ‫حكايا ِته‪ ،‬ضاعت الحكايا ُت القديم ُة وصارت حكايا ُته‬
     ‫يستطع الاستمتاع بالحري ِة كما ظن‪ ،‬بل صارت‬                                  ‫هي الأبقى‪ .‬طلب ُت منه أن ألم َس الكربا َج فأعطاه لي‪،‬‬
‫الدنيا على اتسا ِعها مخيف ًة وضاغط ًة أكثر من جدرا ِن‬                           ‫كالحري ِر‪ ،‬صلبًا‬  ‫تكحجل ِسد اسل ُتهحي ِةو‪،‬يابللَّرار ًقواعكة‪،‬ذيوِل اجلدن ُتهجمناِةعف ًميا‬
‫السج ِن‪ ،‬تلك التي َرسم عليها أحلا َمه‪ ،‬كان يع ّد الأيا َم‬                       ‫السما ِء‪ ،‬ضرب ُت‬
 ‫هناك‪ ،‬ويتخيل حيا َته خارج الأسوا ِر بعي ًدا عن لها ِث‬                          ‫الحائ َط به واستعذب ُت عذا َبها‪ ،‬مرت ليا ٍل وأنا أحل ُم‬
 ‫الكلا ِب والمصابي ِح الكاشفة‪ ،‬وها هو خارج الأسوا ِر‬                            ‫بالكربا ِج‪ ،‬بسك ٍر يندف ُع إلى حلقي حين أمسك قب َضته‪،‬‬
‫لا يستطيع تنفيذ ولا حتى حل ٍم واحد‪ .‬فأسوا ٌر أخرى‬                                     ‫وحين ألم ُس نعوم َته تسري في جسدي رعش ٌة‪.‬‬
                                                                                ‫يف ِمسهعفعهلاىلقسد ُمميكثي ًرا‬  ‫لم‬   ‫عليه حين مات‪ ،‬وحين‬      ‫بكي ُت‬
  ‫غير مرئية كانت تلاح َقه‪ ،‬أسوا ٌر لا تنتهي بأسلا ٍك‬                                                            ‫ِمن‬  ‫على ركب َتي‪ ،‬سال ري ٌم‬  ‫فمات‬
     ‫شائكة‪ ،‬بل بعلاما ِت استفهام‪ .‬علامات استفهام‬                                ‫فوقفت‪ ،‬وقف ُت وقف َته ونام‪ .‬وبرعش ِة عاش ٍق أمسك ُت‬
                                                                                ‫الكربا َج بيدي فاندمل ْت خطو ٌط غائر ٌة في ظهري‪ ،‬لم‬
‫معقوفة كصنّار يصطاد النوم بعي ًدا عن جفو ِنه‪ ،‬ماذا‬                              ‫يكن في الهوا ِء دخا ٌن يتصارع‪ ،‬لا شيء غير رائح ِة‬
                  ‫فعل ليجافيه النوم إلى هذا الحد؟‬                               ‫المو ِت تحم ُل رو َحه لأعلى‪ ،‬وجد ُت المفاتي َح في ستر ِته‬
                    ‫‪ -‬أرأيت أنها معقوفة كصنار؟‬                                              ‫وأنا أرتديها‪ ،‬قبَّل ُته في جبينِه وذهب ُت‪.‬‬
                                                                                ‫وقف ُت أمام الجر ِس أفكر هل أنا مستعد لأرى بش ًرا‬
      ‫كل خطيئته أنه في منتص ِف الطري ِق إلى منزلِه‪،‬‬
      ‫سأل نف َسه؛ ألهذا الحد كن ُت شبي ًها بالسجان؟‬
 ‫وذابت شخصيتي القديم ُة في حكايا ِته المكررة‪ ،‬حتى‬
    ‫أصدقائي المساجين أنكروني وتعاملوا معي على‬
   ‫أني السجان نفسه‪ ،‬إخوتي الذين أكلنا و ِنمنا م ًعا‬
   82   83   84   85   86   87   88   89   90   91   92