Page 90 - ميريت الثقافية رقم (27)- مارس 2021
P. 90

‫العـدد ‪27‬‬  ‫‪88‬‬

                                                   ‫مارس ‪٢٠٢1‬‬

‫رباب كساب‬

‫آمال على الرصيف وشائعة في الحي‬

  ‫زال قلبه يخفق‪ ،‬المرأة التي تسكن فوقه تقول إنه‬         ‫على الطاولة فنجان قهوة‪ ،‬علبة سجائر‪ ،‬ولاعة‪،‬‬
‫مجنون‪ ،‬والتي تسكن تحته تشيع أنه يحبها‪ ،‬والتي‬       ‫كيس مناديل ورقية‪ ،‬أسفل الطاولة ساقان ممددتان‬

           ‫تسكن أمامه تدعي أنه فاشل في الحب‪.‬‬         ‫بلا اكتراث‪ ،‬التراب يغطي الحذاء الرياضي‪ ،‬وأثار‬
               ‫أما التي تسكن قلبه تقول إنه مات!‬      ‫وحل في النعل الأبيض‪ ،‬على الكرسي جسد منهك‪،‬‬
                    ‫الغريب أنه لا يعرفهن جمي ًعا‪.‬‬  ‫أصابع تمسك بسيجارة في إهمال‪ ،‬ترفعها اليد للفم‬

‫يدخل بيته كل مساء‪ ،‬يلقي بنفسه على السرير يفيق‬           ‫وتعيدها في تكرار ممل هادئ‪ ،‬لا يعبأ صاحبها‬
   ‫مع نسمات الفجر‪ ،‬ليجد نفسه ما زال بملابسه‪،‬‬                     ‫بالرماد الذي يتساقط منها ويتطاير‪.‬‬

‫يغيرها ويخرج من جديد‪ ،‬متى يرونه؟! متى يسمع‬         ‫الجسد المنهك يحمل رأ ًسا لها وجه متجهم‪ ،‬مغمض‬
                                    ‫الشائعات؟!‬         ‫العينين‪ ،‬كأنه يسبح في بحر أسود‪ ،‬يأتي النادل‬
                                                       ‫ليسأل هل يرفع القهوة؟ يفتح عينيه في تكاسل‬
   ‫المرأة التي تسكن فوقه تقول إنه يغني بالليل في‬
   ‫المطبخ بصوت عال ويصرخ‪ ،‬والتي تسكن تحته‬            ‫ويومئ برأسه مجيبًا‪ ،‬يمد يده في بطء يخرج ثمن‬
  ‫تقول إنه يغرقها بكلام تتوه معه‪ ،‬لم تسمعه يو ًما‬                                    ‫القهوة ويقوم‪.‬‬

     ‫حتى من زوجها‪ ،‬ليل نهار يحدثها في الهاتف‪،‬‬         ‫لا يشعر بجسده‪ ،‬يسير مدفو ًعا بقوة لا يفهمها‪،‬‬
  ‫كلماته الأكثر هيا ًما تلك التي يقولها وهو مستلق‬        ‫هناك في الميدان المزدحم يقف عند الصينية‪ ،‬لا‬
    ‫على سريره في منتصف النهار عالمًا بأن زوجها‬
                                                    ‫يعرف إلى أين يذهب لقد عبر إليها بلا هدف‪ ،‬يمرر‬
     ‫ليس بالبيت‪ ،‬بينما التي تسكن أمامه تقول إنه‬         ‫بصره في كل اتجاه‪ ،‬الناس بلا عدد‪ ،‬السيارات‬
‫يجيد التقبيل‪ ،‬وحين يباغتها في الصباح بعد خروج‬
                                                     ‫تعافر لتمر في الزحام رافعة صوت أبواقها‪ ،‬تثيره‬
  ‫الجميع لا تستطيع مقاومة حضنه رغم أنه فاشل‬         ‫الأصوات العالية لكنه لا يأبه‪ ،‬هو لا يعرف طريقه‪،‬‬
                                      ‫في الحب‪.‬‬     ‫كل هؤلاء الركاب والسائرون على الأقدام لهم وجهة‬
                                                    ‫يقصدونها‪ ،‬أما هو فلا يعرف‪ ،‬يدرك أنه قريب من‬
               ‫أما التي تسكن قلبه تقول إنه مات!‬     ‫بيته‪ ،‬لكنه لا يريد العودة‪ ،‬الجامع الكبير على يمينه‬
       ‫يجلس على رصيف الجامع الكبير‪ ،‬إلى جوار‬         ‫مغلق‪ ،‬الناس تتعلق بالسور الحديدي‪ ،‬كمن يتعلق‬
 ‫الحالمين‪ ،‬وبائعي البخور والسبح‪ ،‬يملأ أنفه رائحة‬
     ‫البخور الرديء‪ ،‬أمست الدنيا وهو على جلسته‬          ‫بجلباب أمه‪ ،‬ملامحهم تشي بأحمالهم‪ ،‬الرجاء‪،‬‬
 ‫يسمع دعاء الراجين‪ ،‬وثرثرة الباعة‪ ،‬يتطلع لوجوه‬                     ‫الأمل‪ ،‬ما زالوا قادرين على الأمل‪.‬‬
‫السائرين والراكبين‪ ،‬اختنقت أنفاسه بروائح طعام‬
‫لا يعرف من أين تأتي‪ ،‬رديء كأيامه لكنه لا يحس‬         ‫كان ينظر إليهم كأنهم مخلوقات فضائية‪ ،‬هل عاد‬
                                                                                        ‫هناك أمل؟‬
                                        ‫الجوع‪.‬‬
                                                     ‫يتحسس جيبه الخاوي‪ ،‬يضع يده على صدره‪ ،‬ما‬
   85   86   87   88   89   90   91   92   93   94   95