Page 206 - ميريت الثقافية- عدد رقم 26 فبراير 2021
P. 206

‫العـدد ‪26‬‬                             ‫‪204‬‬

                                       ‫فبراير ‪٢٠٢1‬‬

 ‫الأوضاع الطبقية المركبة المحددة‬        ‫والله‪ ،‬وتجعل من التصور الديني‬        ‫ومن شأن هذا التوجه أن يؤسس‬
 ‫لشكل المجتمع والثقافة السائدة»‪.‬‬        ‫لله الأصل والمحور والغاية»‪ ،‬على‬       ‫لمفهوم للإبداع لا يقوم على أصل‬
                                                                              ‫سابق‪ ،‬ولا يحتذي شك ًل شعر ًّيا‬
    ‫(بحثًا عن التراث‪ /‬ج‪ /2‬أدب‬             ‫نحو ما قرر أدونيس‪ .‬وقد أدى‬
  ‫ونقد‪ /‬ديسمبر ‪ .1989‬القاهرة)‬              ‫إسقاط هذا المفهوم على الحياة‬            ‫من أشكال الثقافة السائدة‪.‬‬
                                        ‫الاجتماعية والسياسية إلى تشيؤ‬          ‫وأدونيس في هذا المسعى يقوده‬
    ‫‪ -2‬وأما الماضوية فيعني بها‬            ‫الأمة والجماعة وصارت الأمة‬         ‫فكره إلى ثنائية الماضي والحاضر‪،‬‬
  ‫أدونيس التعلق بالمعلوم ورفض‬               ‫تجري ًدا غيبيًّا‪ .‬وفي هذا إغفال‬
                                           ‫لوظيفة الدين في المجتمع‪ .‬وقد‬           ‫أو ثنائية الاتباع والإبداع أو‬
     ‫المجهول بل الخوف منه‪ .‬فما‬           ‫تناول رفعت س َّلم الواقعة التي‬          ‫التحول والثبات‪ .‬فالإبداع كما‬
    ‫يتجاوز حدود معرفة العربي‬             ‫أتى بها أدونيس واستنتج منها‬          ‫يقول ليس له أصل أو مبتدأ‪ ،‬لأن‬
     ‫المكتسبة ‪-‬وبخاصة الدينية‪-‬‬                                               ‫كل مبدع يمثل أص ًل في حد ذاته‪.‬‬
    ‫يجعله في قلق وحيرة‪ ،‬ويؤدي‬                ‫هذا المفهوم المجافي للحقيقة‬       ‫وفي باطن هذه الحركة الشعرية‬
   ‫كما يعتقد إلى ضلالة‪ .‬وينقض‬            ‫وعممه وص ًفا على العقل العربي‬            ‫الجديدة انفصال عن الماضي‬
   ‫هذه الصفة في ضوء نقد س َّلم‬           ‫المسلم‪ .‬تلك الواقعة هي اجتماع‬        ‫لأنها قد تجاوزته وتقاطعت معه‪،‬‬
    ‫أن الإنسان العربي في العصر‬           ‫السقيفة فور وفاة الرسول عليه‬         ‫وانفصال عن جمهور المتلقين في‬
    ‫الجاهلي تجاوز حدود معرفته‬                                                 ‫الحاضر الذين لم يستجيبوا لهذا‬
    ‫المكتسبة والمعلومة إلى معرفة‬            ‫الصلاة والس َّلم‪ .‬فقد تنازع‬        ‫الشعر‪ .‬ومن ثم فعودة أدونيس‬
‫جديدة مجهولة‪ ،‬ودين جديد جعل‬              ‫المهاجرون والأنصار في مسألة‬
    ‫الآلهة إل ًها واح ًدا‪ ،‬وانتقل هذا‬                                               ‫الشاعر هي عودة أدونيس‬
‫الإنسان بذلك من الإله المحسوس‬              ‫الحكم‪ ،‬ورأى أدونيس أن هذا‬            ‫الباحث إلى التراث للتفتيش فيه‬
   ‫إلى الإله المجرد الذي يدل عليه‬       ‫التنازع تنازع ديني‪ ،‬أي أن الدين‬       ‫عن أسانيد ثقافية وفكرية للشعر‬
                                         ‫جوهر الصراع لا الدنيوي‪ .‬وفي‬         ‫الجديد‪« .‬فالآثار الإبداعية الماضية‬
       ‫العقل ولا تدركه الحواس‪،‬‬           ‫ضوء التحليل الاجتماعي خلص‬             ‫ليست لكي تزكي الآثار اللاحقة‬
      ‫بما يعني أن «المعرفة حركة‬                                                ‫أو تولدها‪ ،‬وإنما هي لكي تشهد‬
    ‫متنامية‪ ،‬حيث تنطوي المعرفة‬              ‫س َّلم إلى أن الصراعات التي‬      ‫على عظمة الإنسان وعلى أنه كائن‬
   ‫المكتسبة على التحولات الدائمة‬           ‫تفجرت ابتدا ًء من وفاة النبي‬       ‫خلاق»‪( .‬الأصول‪ /‬ج‪ 1‬ص‪)104‬‬
  ‫بفعل الخبرات الجديدة فتحتمل‬              ‫لم تكن صراعات دينية‪ ،‬وإنما‬
‫الإضافة كما تحتمل النقص‪ ،‬دون‬              ‫كانت صراعات سياسية حول‬                 ‫النتائج ونقدها‬
 ‫أن تأخذ وض ًعا سكونيًّا مجر ًدا»‪،‬‬         ‫من الأحق بالحكم‪ .‬وأن الفرق‬
    ‫ولا تنفصل حركة المعرفة عن‬           ‫المتصارعة أضفت على صراعاتها‬            ‫تبين فيما سبق أن أدونيس كان‬
     ‫الضرورات الاجتماعية‪ ،‬فهي‬            ‫طاب ًعا دينيًّا حين تعددت الرؤى‬           ‫مهمو ًما بنقد الواقع الراهن‪،‬‬
 ‫محكومة بحركة المجتمع وصراع‬            ‫والتفسيرات للنصوص؛ التي رأت‬
‫قواه الاجتماعية»‪( .‬س َّلم‪ /‬المرجع‬          ‫كل جماعة أنها سند لها‪ ،‬ومن‬        ‫وحصر هذا النقد في ثنائية الثقافة‬
                                           ‫ثم صار الدين أداة من أدوات‬        ‫الاتباعية أو الإبداعية‪ ،‬وأنه خلص‬
                       ‫السابق)‬               ‫الصراع على الحكم‪ .‬وانتهي‬
    ‫‪ -3‬وأما الخاصية الثالثة على‬           ‫س َّلم في نقد اللاهوتية إلى أنه‬       ‫إلى عدة نتائج جعلها خصائص‬
‫صعيد التعبير واللغة‪ ،‬فهي الفصل‬           ‫«لا تصبح الأمة إسقا ًطا لاهوتيًّا‬    ‫للعقل العربي منذ صدر الإسلام‬
   ‫بين المعنى والكلام‪ ،‬ويعني بها‬       ‫إذن‪ .‬ولكن يصبح اللاهوت ظاهرة‬
  ‫أدونيس «في كل تطور حضاري‬                 ‫ثقافية اجتماعية تنعكس عليها‬          ‫حتى الوقت الراهن‪ .‬ولخطورة‬
  ‫يتطابق الشكل والوظيفة‪ ،‬بحيث‬             ‫الحياة الاجتماعية والسياسية‪،‬‬         ‫التسليم بهذه النتائج‪ ،‬فقد فندها‬
    ‫إن تغير الوظيفة يستتبع تغير‬        ‫فيأخذ شكلها وطابعها مرتب ًطا بها‬      ‫رفعت س َّلم تفني ًدا علميًّا في ضوء‬
                                       ‫في علاقة جدلية‪ .‬ومن ثم فانقسام‬
       ‫الشكل‪ .‬لكن مع أن وظيفة‬          ‫المجتمع العربي وسيادة مستويات‬              ‫المنهج الذي تبناه وهو المنهج‬
 ‫الشعر في المجتمع العربي تغيرت‬            ‫بعينها من الثقافة‪ ،‬إنما تفسره‬       ‫المادي الجدلي‪ .‬وأول هذه النتائج‬

     ‫في الإسلام عما كان عليه في‬                                                               ‫أو الخصائص‪:‬‬
                                                                             ‫‪ -1‬اللاهوتية؛ وهي « النزعة التي‬

                                                                                 ‫تغالي في الفصل بين الإنسان‬
   201   202   203   204   205   206   207   208   209   210   211