Page 4 - مسيلة للدموع
P. 4

‫«قد كان ما كان‪ ،‬ومرت الأيام بطيئة‪ ،‬وكادت الليالي ألا ت ُمر‪ ،‬وكيف تمر والأح ازن تتشبث بها وتمنعها‬
                                                                                           ‫من المسير‪..‬‬

                                                    ‫وتالله إن قيد الأح ازن أقسى وأشد خناقا من قيد الس َّجان‪.‬‬
     ‫ورغم أن الليل بطبيعته يحب الحزن والحنين‪ ،‬ويل ّح على الذكرى حتى تأتي‪ ،‬ويتحايل على خواطر النفس‬

                                                         ‫لتفعل أفاعيلها في القلب وتطرد النوم بعيدا بعيدا‪..‬‬
     ‫إلّا أن تلك الليالي لم ت ُعد تطيق أو تحتمل كم الألم والحنين‪ ،‬الحنين الذي لا يملك أملا إلّا الجّنة أو‬

                                                ‫النسيان‪ ،‬ولن يستطيع النسيان‪ ،‬لذا فليس له خيار إلا الجنة‪.‬‬
                                                    ‫ليالي وأيام ما بعد الفض‪ ،‬فض ميدان ( اربعة العدوية)‪.‬‬

     ‫كانت تلك الأيام كالهدوء الذي يتلو العاصفة‪ ،‬العاصفة التي دمرت كل شيء و ارحت بهدوء مطبق وكأن‬
                                                        ‫شيئا لم يكن! ولكن الحقيقة أن أشيا َء وأشيا َء كانت‪.‬‬

     ‫ربما لم تكن عاصفة‪ ،‬ربما كانت بركانا دمر كل شيء‪ ،‬ولكنّه ظل ملتهبا من الداخل‪ ،‬ولم ينطفئ بعد‪،‬‬
                                                 ‫ولن ينطفئ حتى يثور من جديد؛ ليحرق الظلم والظالمين‪..‬‬

     ‫فهو ما كان إلا مجرد ناقل للني ارن وقوتها من أيدي الظالمين ليقذفها في أيدي المظلومين؛ ليعيدوها وبالا‬
                                        ‫عليهم بالحق والعدل‪ ،‬كما فعلوا هم من قبل بالباطل‪ ..‬فالأياُم ُدَول»‪.‬‬

     ‫كتب آسر تلك الكلمات في دفتر خواطره‪ ،‬ذلك الدفتر الذي يحتوي على كم من الخواطر يخشى هو نفسه‬
              ‫أن يعيد ق ارءتها؛ حتى لا تتجدد الآلام‪ ،‬وتبكي عليه الذكرى‪ ،‬كما بكى عليها‪ ،‬وكما سيظل يبكي‪.‬‬

     ‫كم حكى للدفتر عن صديقه محمود الذي استُشهد يوم الفض على يديه‪ ،‬وهو ينظر إليه‪ ،‬تلك النظرة الثاقبة‬
                                ‫التي تقتحم فيها العيون عيون حبيبتها المقابلة؛ لتنتزع منها الكلمات الأخيرة‪..‬‬

     ‫تلك النظرة التي كانت أبلغ من كل الكلمات «يا صديقي‪ ،‬لن ألوم الرصاص الذي منعك من أن تقول لي‬
     ‫كلمة الوداع الأخيرة‪ ،‬فقد أخبرتني عيناك كل شيء‪ ،‬لن أترك حقك إلى أن ألحق بك‪ ،‬قسما يا رفيق‪..‬‬

                                                                                                ‫قسما»‪.‬‬

     ‫كم حكى للدفتر عن آ ِخر حديث بينهما‪ ،‬وآ ِخر سحور‪ ،‬وآ ِخر نّية عقدوها سويا لصيام يوم المجزرة‪ ،‬قبل أن‬
            ‫يعرفا أنه سيكون يوم المجزرة‪ ،‬وأن أحدهما سيودع الآ َخر؛ ليتناول وجبة الإفطار بعيدا في السماء‪.‬‬

     ‫كم حكى للدفتر عن العناق الأخير الذي التصق فيه الجسدان‪ ،‬حتى يظن ال ارئي أنه جسد واحد لا اثنان‪،‬‬
     ‫كما أن الروح واحدة‪ ،‬ولكنها انشطرت نصفين‪ ،‬نصف رحل إلى السماء‪ ،‬والآ َخر يقف على الأرض يشهد‬

                                                                  ‫صعوده لحظة بلحظة‪ ،‬إنه الف ارق القاتل‪.‬‬

‫‪4‬‬

                                                                                           ‫مسيلة للدموع‬
   1   2   3   4   5   6   7   8   9