Page 102 - m
P. 102

‫العـدد ‪58‬‬   ‫‪100‬‬

                                                        ‫أكتوبر ‪٢٠٢3‬‬

‫هاني القط‬

‫العازف الرقيق‬

‫شيء‪ .‬رأيتك هناك‪ ،‬ملامحك تتسع لكل شيء‪ ،‬وأنت‬                    ‫في الرأس ذاكر ٌة‪ ،‬وفي الروح نهايات لهم‪ ،‬فلا‬
  ‫تعزف بقرب الدراجة العجوز‪ ،‬التي ُتركت وحيد ًة‬          ‫تضرب بأنغامك فوق أذني وأنا أحكي أيها العازف‪..‬‬
 ‫على باب السينما‪ ،‬حيث غفى صاحبها إلى جوار بن‬
   ‫صاحبه‪ ،‬إغفاءة تليق بطفل كفه بيضاء كأحلامه‪،‬‬               ‫كان وجهها رائ ًقا‪ ،‬واللافتة على باب المقهى تهتز‬
  ‫وفي بئر نغمك سقط يسد أذنيه عن نواح الدراجة‬                 ‫وج ًعا‪ ،‬إثر موت آخر الحروف وانمحاء الاسم‪،‬‬
                                                            ‫عامل المقهى صبي غار ٌق في حسب ٍة عميق ٍة‪َ .‬قل ُب‬
‫التي لن ُيعيرها أح ٌد اهتما ًما بعد الآن‪ .‬التفاصيل لك‪،‬‬   ‫العجوز أقرب إلى ال ِخطاب من القصعة التي نخرها‬
  ‫والنهايات لهم‪ ،‬كان وجهه في الغياب مطمئنًا وهو‬             ‫الجمر‪ ،‬وكنت أجبن من أن أشي بك وأنت تلقف‬
    ‫يفتش في ملامحك التي تتسع لكل شيء‪ ،‬وكنت‬               ‫ال ِخطاب من كف الصبي‪ ،‬وتضعه في كفها لتأخذها‬
                           ‫أجبن من أن أشي بك‪.‬‬               ‫وتمضي بعي ًدا‪ ،‬تتجاوز بها الصندوق البليد‪ ،‬ثم‬
      ‫لماذا تضربنا بالراحلين في مقتل؟! لماذا ترسم‬
     ‫القسوة على وجهك وأنت العازف الرقيق‪ ،‬لماذا‬                 ‫تفتح لها بعينك طريق مدينتك؛ لتلقاها هناك‪.‬‬
   ‫تمنحنا ظهرك؛ لتخفي عن أعيننا إطلالة قميصك‬            ‫تحت طيات السحاب الفاتن؛ ينكفئ شي ٌخ على ُعكازه‬
 ‫الأبيض‪ ،‬لك المهابة ما ُذكرت ولنا الوجع ما حيينا!‬
 ‫أي موسيقى تلف بالصمت صافرة القطار‪ ،‬وكيف‬                    ‫المعقوف؛ ليسترد توازنه! خطاها البطيئة ُتسرع‬
    ‫تختبئ وأنت في مثل أجسامنا أو يزيد‪ ،‬في جسد‬            ‫له‪ ،‬التفاصيل لك والنهايات لهم‪ .‬بدهشة المستغرب‬

‫فراشة تحيط بها كف شي ٍخ له ملامح الذهول‪ ،‬ببدلة‬              ‫يسألها الشيخ عن فائدة الرسائل؛ بعدما لم يع ْد‬
‫يلطخها الطين‪ ،‬ويخفيها الليل‪ ،‬تهمس للشيخ بموعد‬               ‫للأشواق معنى‪ ،‬وحينما تنكشف ورقة الخطاب‬
                                                            ‫المفرودة في كفه عن بياض كامل بلا نقوش من‬
  ‫كان يسأل عنه‪ .‬فيركض الشيخ‪ ،‬يسابق الفراشة‪،‬‬             ‫حبر‪ ،‬تنفجر العجوز بضحكة من نور‪ ،‬وتتوعد زوج‬
  ‫ليسألها كيف خبأ ْت في ألوانها س ِره‪ ،‬ولما تختفي‪،‬‬         ‫ابنتها الماكر بحلم؛ ثم ترفع وجهها المشتاق بفرح‬
 ‫يبتسم الشيخ ابتسامة الرضى‪ ،‬وي َقب َل صورة ابنه‬
‫المطوية في كفه المرتعشة ويرمى بها للريح‪ ،‬وينطلق‬                           ‫وقد أبصرت على البعد من تريد‪.‬‬
                                                                ‫الحسبة صائبة‪ ،‬والموعد بالتمام‪ ،‬والصدفة‬
    ‫القطار المسرع بعي ًدا عن عينيه‪ .‬تفر الساعة من‬          ‫مقصودة‪ .‬المدينة التي مشت إليها الخطى تنتظر‪.‬‬
    ‫معصمه المقطوع؛ وتنام في جوف حقيبة جلدية‬                 ‫«الأفيش» الذي رقت له الجوانح يبكي‪ .‬الدراجة‬
     ‫مستريحة مع حبات المسبحة والخرزة الزرقاء‬            ‫التي أمسكت بمقودها كف المُصدق موجوع ٌة‪ ،‬المشهد‬
‫والصور‪ ،‬وحينما وجدوه على القضبان‪ ،‬كان وجهه‬                   ‫الذي ُيحركه ُشعا ٌع على شاشة الأوهام يتكرر‪،‬‬
    ‫مجهو ًل لم يعرف المتأملون له جوا ًبا عن اسمه‪.‬‬        ‫لكن النهاية مختلفة هذه المرة‪ ،‬فمتى كان العازفون‬
  ‫الموعد لك والانتظار لهم‪ ،‬فلا تضرب أنغامك فوق‬          ‫بارعين في الحساب! البطل لم َي ْعب ْر إلى محبوبته مثل‬
                                                         ‫وهج الشمس‪ ،‬النغمة المنبعثة من أوتارك غيرت كل‬
   97   98   99   100   101   102   103   104   105   106   107