Page 110 - m
P. 110

‫العـدد ‪58‬‬                            ‫‪108‬‬

                                                                ‫أكتوبر ‪٢٠٢3‬‬

‫رأفت حكمت‬

‫(سوريا)‬

‫النار في مكان آخر‬

 ‫يتأملني‪ ،‬ويمد يده اليمنى برفق‪ ،‬يجسني برؤوس‬                    ‫انتبه الرجل الذي كان يقود دراجته الهوائي َة‪،‬‬
  ‫أصابعه‪ ،‬ثم يفركها ببعضها متحس ًسا أث َر ال ِهباب‬       ‫بالقرب من مكان استخراجنا من باطن الأرض‪ ،‬إلى‬
                                                         ‫أن أحد العمال أسق َطني ‪-‬دون أن يشعر بذلك‪ -‬من‬
                              ‫الذي أتركه عليها‪..‬‬
   ‫كان حجمي‪ُ ،‬يعاد ُل تقريبًا حج َم كرة البيسبول‪،‬‬            ‫العربة التي يحاو ُل أن يجرها بصعوب ٍة‪ ،‬باتجاه‬
‫سطحي الخارجي خش ٌن نو ًعا ما‪ ،‬تظهر عليه بشك ٍل‬             ‫الشاحنات الكبيرة‪ ،‬حيث ستقوم بنقلنا إلى أماك َن‬
  ‫واض ٍح نتوءا ٌت حاد ٌة‪ ،‬أث ُر الأزاميل والمطارق‪ ،‬التي‬
                                                                                               ‫مجهولة‪..‬‬
                ‫كان يستخدمها العمال لتكسيرنا‪..‬‬             ‫تدحرج ُت بعد سقوطي من العربة بسرع ٍة رهيب ٍة‪،‬‬

    ‫لوني أسو ُد‪ ،‬لام ٌع بعض الشيء‪ ،‬أستطيع رؤية‬               ‫على المنحدر الترابي الذي ينتهي في الأسفل عند‬
     ‫انعكاس التماعي واض ًحا في عيني الرجل الذي‬              ‫بوابة المنجم الخشبية‪ ،‬حيث اصطدمت بها بقوة‪،‬‬
   ‫ما زال يتأملني‪ ،‬حيث فجأ ًة التقطني بسرع ٍة بين‬          ‫وشعرت إثر هذا الاصطدام بتناثر أجزا َء صغيرة‬
‫أصابعه‪ ،‬بعد أن سمع صوت أح ٍد ما قادم‪ ،‬ودسني‬
   ‫بحرك ٍة خاطف ٍة في جيب سترته الصفراء‪ ،‬مغاد ًرا‬                                                 ‫مني‪..‬‬
    ‫المكا َن كأنه لِص‪ ،‬متج ًها إلى بيته‪ ،‬الذي اكتشف ُت‬    ‫أظن بأنني نجوت‪ ،‬وفي الحقيقة‪ ،‬لم أعرف بالضبط‬
  ‫فيما بعد‪ ،‬أنه كان قريبًا من موقع المنجم‪ ،‬في أحد‬
                                                                                                  ‫مماذا!‬
       ‫الأرياف النائية عند أطراف الصين الشعبية‪.‬‬              ‫لكن نظرات الرجل صاحب الدراجة‪ ،‬الذي يقف‬
                                                           ‫بعي ًدا‪ ،‬وترجله عنها واقترابه مني‪ ،‬أحدا ٌث جعلت‬
 ‫أنا الآن في جيب سترة هذا الرجل‪ ،‬أشع ُر بالخجل‪،‬‬              ‫شعور النجاة‪ ،‬هو المسيطر عليَّ في تلك اللحظة‪.‬‬
‫إذ لوثتها من الداخل بال ِهباب‪ ،‬وأسمع بشك ٍل واض ٍح‬       ‫حيث كنا‪ ،‬قبل استخراجنا من باطن الأرض‪ ،‬نسمع‬
‫لهاثه وهو يقود دراجته الهوائية بصعوبة‪ ،‬وصوت‬                 ‫كثي ًرا من صخور الفحم الكبيرة والمعمرة‪ ،‬حكايا‬
 ‫عجلاتها وهي تدور مسرع ًة على طريق وعر ٍة جدا‪،‬‬              ‫وقصص عن مصير الفحم الحجري بعد تعدينه‪.‬‬
                                                         ‫وكانت من بين أكثر القصص رعبًا‪ ،‬تلك التي تحكي‬
‫أستطيع أي ًضا‪ ،‬الشعور بارتباكه أثناء قيامه بتوجيه‬          ‫أن البشر سيقومون ‪-‬إذا وجدونا‪ -‬بتكسيرنا إلى‬
 ‫مقود الدراج ِة‪ ،‬مبتع ًدا عن الحفر‪ ،‬متجاو ًزا المطبات‬    ‫قطع صغيرة‪ ،‬ثم يرموننا في مراج َل ضخم ٍة‪ ،‬وقو ًدا‬
                                       ‫الكثيرة‪..‬‬           ‫لزيادة استعار النار فيها‪ ،‬من أجل استخدامنا في‬

‫استغرق وصولنا إلى بيته‪ ،‬أكثر من نصف الساعة‪،‬‬                                               ‫توليد الكهرباء‪.‬‬
  ‫كل شيء أستطيع فعله من مكاني المُعتم هذا‪ ،‬هو‬            ‫لذلك‪ ،‬لا أعتقد أن أي مصي ٍر غير هذا سيكون أسوأ‪،‬‬

  ‫الاعتما ُد على الأصوات المسموعة‪ ،‬من أجل تخمين‬                                   ‫حتى ولو كان مجهو ًل‪..‬‬
                  ‫الأشياء التي تحد ُث في الخارج‪..‬‬           ‫اقترب الرجل الغريب ‪-‬صاح ُب الدراجة‪ -‬وراح‬
                                                          ‫يمشي باتجاهي ببط ٍء وهو يتلف ُت من حوله‪ ،‬شيئًا‬
   ‫ها قد وصلنا أخي ًرا‪ ،‬صوت أقدام الرجل واض ٌح‬           ‫فشيئًا حتى صار قريبًا ج ًّدا‪ ،‬على بع ٍد يمكنني جي ًدا‬
 ‫جدا‪ ،‬هو الآن يصعد در ًجا ما‪ ،‬أحاول عد الدرجات‬           ‫من رؤية ملامحه المدهوشة‪ ،‬كأنه عثر على كن ٍز ما‪..‬‬
‫التي يصعدها‪ ،‬لك َنني لا أستطيع التركيز جي ًدا‪ ،‬ربما‬
  ‫لأنه لا يصعد بشكل منتظم‪ ،‬فصوت لهاثه العالي‪،‬‬
   105   106   107   108   109   110   111   112   113   114   115