Page 80 - m
P. 80

‫العـدد ‪58‬‬   ‫‪78‬‬

                                                   ‫أكتوبر ‪٢٠٢3‬‬

‫سمير الفيل‬

‫خل وجمل‬

  ‫نظرت للكراسة التي رسم على غلافها بيت ريفي‬               ‫ارتفعت أصوات الباعة الجائلين منادين على‬
      ‫تسوره أشجار داكنة الخضرة‪ :‬لمن الكراسة؟‬          ‫بضاعتهم‪ ،‬وهم يدفعون عرباتهم الخشبية نحو‬
                  ‫قلت لها على الفور‪ :‬لك يا بثينة‪.‬‬  ‫أركان ميدان سوق الحسبة‪ ،‬خوفا من هجوم رجال‬

   ‫تحسست أوراقها بأناملها الدقيقة‪ ،‬وضعت يدها‬                                               ‫البلدية‪.‬‬
                ‫على الصفحات‪ ،‬مررتها برفق‪ :‬أنا؟‬      ‫جاءت جلستي على مقهى شاهين‪ ،‬لذا رأيت بثينة‪،‬‬
                ‫قلت‪ ،‬أشجعها‪ :‬نعم‪ ،‬لا أحد غيرك‪.‬‬     ‫الشغالة النشيطة عند عائلة الأبحر‪ ،‬قادمة بال َّس َبت‪،‬‬

  ‫كنت قد عرفت منها في المرتين السابقتين أنها من‬           ‫وهي تشوط بعض الحصى لتسلية نفسها‪.‬‬
  ‫قرية محب‪ ،‬بلد عبد الفتاح الجمل‪ ،‬مات الرجل في‬        ‫بثينة في التاسعة من عمرها‪ ،‬ذات سمرة محببة‪،‬‬

    ‫القاهرة دون أن يقابلها‪ ،‬وبالتالي لم يكتب عنها‬       ‫وابتسامة دائمة‪ ،‬وهي شغوفة بتصفح وجوه‬
                        ‫كتاباته الجميلة‪ ،‬العميقة‪.‬‬                                       ‫السائرين‪.‬‬

 ‫أشرت بيدي للسطور‪ ،‬كل يوم أراك فيه‪ ،‬تجلسين‬          ‫عندما اقترب ْت من جلستي‪ ،‬همس ُت باسمها‪ :‬بثينة‪.‬‬
      ‫معي دقائق ثم تنصرفين‪ ،‬سأعلمك الكلمات؟‬           ‫ُس َّر ْت عندما رأتني‪ ،‬وافترت شفتاها عن ضحكة‬

‫هزت رأسها في أسى‪ :‬لم أدخل المدرسة‪ ،‬ستِّي تقول‬       ‫صغيرة‪ ،‬لوحت لي بيدها‪ ،‬وشرعت في المضي نحو‬
              ‫عني إنني غبية‪ ،‬ولن أفلح في شيء‪.‬‬                         ‫سوق البلح القريب من المقهى‪.‬‬

    ‫رفضت هذا تما ًما‪ ،‬طلع صوتي متقط ًعا‪ ،‬متعبًا‪،‬‬                ‫قلت لها‪ ،‬استوقفها‪ :‬عندي لك حاجة‪.‬‬
      ‫صوت رجل في السبعين‪ :‬هي لا تعرفك مثلي‪.‬‬         ‫توقفت‪ ،‬وانحرفت لتكون قريبة من المنضدة التي‬
      ‫طلبت لها ليمو ًنا مثل ًجا‪ ،‬شربته على جرعات‬
  ‫متتالية‪ ،‬وبمنديل صغير من القماش ظلت تمسح‬                     ‫أجلس إليها‪ :‬حاضر‪ ،‬حضرة الأستاذ‪.‬‬
   ‫حبات العرق على جبينها‪ :‬أخاف أن أتأخر‪ .‬ستي‬        ‫قلت في نفسي‪ ،‬وقد سبق لي التحدث معها مرتين‬

                                     ‫ستعاقبني‪.‬‬                    ‫منذ حوالي أسبوع‪ :‬البنت تتذكرك‪.‬‬
        ‫نفيت أنها ستتأخر‪ :‬ستكون الكراسة معي‪،‬‬          ‫شجعتها أن تجلس للحظات في هذا الحر‪ ،‬لتلتقط‬
     ‫سأعطيها لك بعد أن تنتهي من تعلم الحروف‪،‬‬       ‫أنفاسها قبل مواصلة مشوارها اليومي‪ ،‬لم تعترض‬

                               ‫وكتابة الكلمات؟!‬          ‫لكنها قالت لي في شبه احتجاج‪ :‬دقيقة واحدة‬
                      ‫أومأت لي برأسها‪ :‬حاضر‪.‬‬                                            ‫وانصرف‪.‬‬
 ‫كنت عرفت من الجلستين السابقتين أن أباها على‬
‫قيد الحياة‪ ،‬ولم يدخلها المدرسة لتشتغل في البيوت‪،‬‬     ‫كنت قد اشتريت لها كراسة تسعة أسطر‪ ،‬كتبت‬
                                                   ‫عليها اسمها‪ ،‬ومعها قلم رصاص وممحاة‪ :‬تشربي‬

                                                                                              ‫أيه؟‬
   75   76   77   78   79   80   81   82   83   84   85