Page 83 - m
P. 83

‫‪81‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫القصة‬

                ‫برعدة تتملكه من قدميه إلى رأسه‪.‬‬        ‫تقطعه أصوات المدافع وأزيز الطلقات‪ .‬بعد قليل‬
      ‫كانت عدة دقائق كافية لكي يغط الروسي في‬          ‫صعد نفس الشاب الصغير وهو لا يزال يواصل‬
      ‫النوم بمجرد جلوسه على مقعده‪ .‬بينما انزلق‬
 ‫جسد الشاب الصغير على المقعد ليغطس في معطفه‬             ‫البكاء‪ ،‬ولكن على استحياء وبصوت منخفض‪.‬‬
‫الواسع‪ .‬لم تكن اهتزازات عربة القطار كافية لإقلاق‬   ‫جلس في أقرب مقعد إلى جوار الباب ليواصل البكاء‬
‫أي منهما‪ ،‬ولا حتى أصوات الجنود الذين يتحدثون‬
      ‫بأصوات عالية‪ ،‬أو ينقلون فيما بينهم زجاجة‬         ‫والنهنهة‪ ،‬وبين لحظة وأخرى ينظر إلى الخارج‬
  ‫الفودكا بعد الأخرى في بهجة‪ ،‬تؤثر على طبلة أذن‬         ‫فيتزايد بكاؤه بشكل هستيري‪ .‬كان الرجل لا‬
   ‫أي منهما‪ .‬ويبدو أن الشاب الصغير كان يواصل‬        ‫يزال واق ًفا إلى جوار النافذة مر ِّك ًزا عينيه على وجه‬
‫البكاء في الحلم‪ ،‬وربما أبكاه شيء ما‪ ،‬فانتقل بكاؤه‬  ‫الشاب وهو يبتسم ابتسامة واسعة وعيناه دامعتان‬
     ‫من الحلم إلى الواقع‪ ،‬حتى أيقظ جاره الروسي‬         ‫في فرح وكأنه سمع للتو خبر الانتصار العظيم‬
 ‫الضخم‪ ،‬الذي فتح عينيه على صوت البكاء آتيًا من‬        ‫على العدو‪ .‬وبين اللحظة والأخرى يشد بيده على‬
                                                   ‫ساعد الشاب وهو يهلوس بكلمات خافتة بالروسية‬
        ‫تحت المعطف وكأنه يسري من جب عميق‪.‬‬          ‫والأرمنية‪ .‬الرجل يبتسم في تشجيع‪ ،‬والشاب يبكي‬
     ‫أيقظه‪ .‬وبيد واحده رفعه قلي ًل وأجلسه بشكل‬         ‫بحرقة‪ .‬وعندما اكتمل عدد الجنود الذين‪ ،‬أنهوا‬
  ‫معتدل على المقعد‪ .‬سأله مباشرة‪« :‬من هذا الرجل‬      ‫خدمتهم للتو وكل منهم يحلم بالعودة إلى أحضان‬
     ‫الذي كان معك؟»‪ .‬قال الشاب الصغير‪« :‬أبي»‪.‬‬        ‫من يحب‪ ،‬إلى الحياة والأمهات والأطفال والسفر‪،‬‬
    ‫وراح يكتم نوبة بكاء مرة وجسده يهتز بشدة‪.‬‬         ‫إلى العمل اليومي والسفر والسهر‪ ،‬انطلق الباص‪.‬‬
     ‫ارتبك الجسد الضخم واهتزت شفتاه بشكل لا‬         ‫كل منافذ بيع التذاكر تعمل بشكل منتظم وسريع‪.‬‬
    ‫إرادي‪ .‬هز رأسه مرة أخرى بشكل غير مفهوم‪.‬‬            ‫لم تكن هناك طوابير طويلة‪ .‬مجرد دقائق قليلة‬
     ‫ونهض واق ًفا‪ .‬تناول حقيبته من الرف العلوي‪،‬‬       ‫ويحصل كل منهم على بطاقته نحو الوجهة التي‬
  ‫فتحها وأخرج زجاجة فودكا‪ ،‬وأعاد الحقيبة‪ .‬فتح‬        ‫يقصدها‪ .‬ولكن الشاب الصغير كان منه ًكا بشكل‬
‫الزجاجة وأخذ جرعة لا بأس بها‪ ،‬ثم ناولها للشاب‪.‬‬         ‫لافت‪ ،‬يتحرك في صعوبة‪ ،‬يكاد ينهار مثل عود‬
  ‫نظر إليه في حيرة وقال في خجل‪« :‬أنا لا أشرب»‪.‬‬        ‫قش ضعيف في مواجهة هبة ريح خفيفة عابرة‪.‬‬
  ‫نظر إليه الروسي بملامح جادة ومشجعة‪ ،‬وق َّرب‬        ‫وقف بالكاد في طابور قصير للغاية يضم خمسة‬
     ‫الزجاجة منه قائ ًل‪« :‬خذ جرعة صغيرة فقط»‪.‬‬       ‫أو ستة جنود‪ .‬أصوات الفرح والبهجة تملأ المكان‪،‬‬
    ‫تناول الشاب الزجاجة في لين‪ ،‬ولكن بيد ثابته‪،‬‬        ‫وصيحات الترحيب وكلمات الوداع بين الجنود‬
‫وكأنه يظهر تحد ًيا ما‪ ،‬أو ربما رأى في لحظة عابرة‬     ‫تتداخل في معزوفة خرافية‪ ،‬بينما الشاب الصغير‬
     ‫أن الأمر سيَّان‪ .‬فالكل في الحرب يشرب‪ .‬ومن‬       ‫يطلب في صوت منهك تذكرة إلى موسكو‪ .‬في هذه‬
    ‫لا يشرب‪ ،‬فالحرب تجبره على الشراب‪ .‬وفي كل‬        ‫اللحظة انطلق صوت جهوري من الخلف في اتجاه‬
‫الأحوال‪ ،‬الجميع الآن يشربون في العربة‪ ،‬كل لسببه‬     ‫الشاب يطلب منه شراء تذكرة إضافية إلى موسكو‬
‫الخاص‪ .‬العامل المشترك بينهم هو البهجة ومغادرة‬       ‫أي ًضا‪ .‬ثم ناوله رجل روسي ضخم‪ ،‬فارع الطول‪،‬‬
‫الحرب والابتعاد عن السكون المرعب‪ ،‬وعن أصوات‬
  ‫الانفجارات المفاجئة‪ ،‬وعن الموت في نهاية المطاف‪.‬‬                                     ‫ثمن التذكرة‪.‬‬
 ‫الضجيج والأصوات العالية لا علاقة لها بالصمت‪،‬‬      ‫جلس الاثنان على مقعدين متجاورين‪ .‬سارع الشاب‬
    ‫إنها ببساطة المعادل الموضوعي للحياة‪ ،‬والضد‬
                                                       ‫الصغير بضم ياقة معطفه‪ ،‬وأحكمها جي ًدا حول‬
                                 ‫المباشر للموت‪.‬‬     ‫رقبته‪ .‬أغمض عينيه وأمال رأسه على مسند المقعد‪.‬‬
 ‫سأله الروسي‪« :‬هل أنهيت خدمتك‪ ،‬أم ستعود مرة‬         ‫نظر إليه الروسي في صمت وهز رأسه بلا معنى‪،‬‬

    ‫أخرى؟ ولماذا بقي والدك‪ ،‬هل هو ضابط؟ وماذا‬         ‫ثم أسند رأسه هو الآخر إلى مسند مقعده وأغلق‬
 ‫عنك أنت‪ ..‬لماذا تبكي؟!”‪ ..‬قال الأرمني الصغير إنه‬    ‫عينيه‪ .‬لكنه لم يلبث أن غط في النوم‪ ،‬وإذا بصوت‬

                                                        ‫بكاء مكتوم يصدر من تحت معطف الشاب في‬
                                                    ‫حرقة هزت جسد الروسي الضخم وجعلته يشعر‬
   78   79   80   81   82   83   84   85   86   87   88