Page 82 - m
P. 82

‫العـدد ‪58‬‬   ‫‪80‬‬

                                                      ‫أكتوبر ‪٢٠٢3‬‬

‫أشرف الصباغ‬

‫انتظار‬

   ‫الشيء‪ ،‬وكأنه يبكي من فرحة ما‪ ،‬وهو يحتضن‬               ‫لفت انتباهه هذا المشهد لدرجة أنه َذ َّكره بالأفلام‬
  ‫شا ًّبا صغي ًرا ينهنه كطفل‪ ،‬ويداه متشبثتان بثياب‬       ‫الرومانسية عن الحرب والموت والمعاناة والفراق‬
‫الرجل‪ .‬كان الاثنان يرتديان نفس الثياب العسكرية‪.‬‬           ‫والدموع‪ .‬ولكنه عندما كان يشاهد تلك الأفلام‪،‬‬
  ‫يتحدثان في لهفة بروسية تتخللها كلمات أرمنية‪.‬‬        ‫كانت الحرب بعيدة زمنيًّا‪ ،‬سواء كانت حروب القرن‬
                                                        ‫التاسع عشر أو الحربان العالميتان‪ ،‬أو حتى حرب‬
    ‫لم يجهد نفسه في التخمين عن علاقة كل منهما‬          ‫أفغانستان‪ .‬كما أن الحرب ليس فيها موسيقى مثل‬
  ‫بالآخر‪ .‬فهما مجرد جنديين إما يودعان بعضهما‬           ‫الأفلام‪ ،‬ولا تتضمن مشاهد منسقة‪ ،‬ولا وقت فيها‬
  ‫أو أنهما التقيا بعد افتراق‪ ،‬أو يبكيان صدي ًقا لهما‬     ‫للكلام أو التمعن في الملامح وتحديد مدى خوفها‬
‫تركاه في مكان ما في أي غابة تحت فروع الأشجار‬             ‫أو رعبها أو درجة وعيها بما يجري‪ .‬ربما يكون‬
  ‫المحترقة أو على أي جبل بين الأحجار التي تغطي‬         ‫السكون هو العامل الوحيد المشترك الذي يمكن أن‬
                                                          ‫تشاهده في الحرب وفي الأفلام عن الحرب‪ .‬ذلك‬
      ‫نصف جثته‪ .‬واصل طريقه نحو الباص الذي‬               ‫السكون المرعب الذي يحمل في طياته كل علامات‬
   ‫سينقله إلى محطات القطارات‪ ،‬ومنها إلى موسكو‬           ‫الخطر والإحساس باقتراب الموت‪ ..‬السكون الذي‬
   ‫مرة أخرى بعد عام قضاه هنا في الحرب التي لا‬             ‫يسبق سقوط قنبلة أو ضربة صاروخ أو قذيفة‬
   ‫يعرف حتى الآن لماذا نشبت‪ ،‬ولماذا تدور‪ ،‬ومتى‬          ‫مدفعية لا أحد يعلم ما تحتويه من مواد حارقة أو‬
‫ستنتهي‪ ،‬وكيف ستنتهي‪ .‬ولا يعرف أي ًضا ضد من‬               ‫مشعة‪ .‬السكون هنا أكثر رعبًا من الحرب‪ ،‬وأشد‬
 ‫بالضبط كان يحارب‪ .‬فقد أرسلوه إلى هنا ليحارب‬           ‫رعبًا من الرعب نفسه‪ .‬لا يوجد فيه سوى الصمت‬
  ‫الأعداء الذين يشكلون خط ًرا على الدولة ويهددون‬        ‫الذي تتخلله أنفاس متقطعة تضبط عقارب الوقت‬
                                                       ‫مع دقات القلب‪ ،‬وتتساقط فيه حبات العرق‪ ،‬سواء‬
                                    ‫أمن الوطن‪.‬‬
 ‫جلس بجسده الضخم الفارع على مقعده في الباص‬                     ‫تحت الشمس الحارقة أو في وسط الثلوج‪.‬‬
                                                      ‫شده المشهد لدرجة أنه تجمد قلي ًل‪ .‬حاول أن يتبين‬
    ‫الذي كان ينتظر اكتمال العدد لكي ينطلق‪ .‬نظر‬
    ‫من خلال النافذة نحو أشجار الغابات الواسعة‬            ‫ملامح الرجل الذي يبكي بطريقة كوميدية بعض‬
  ‫التي تقف في خلفيتها جبال عالية تقف في صلابة‬
    ‫وتجهم‪ ،‬سرح بخياله في السكون المخيف الذي‬
   77   78   79   80   81   82   83   84   85   86   87