Page 87 - m
P. 87

‫‪85‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫القصة‬

            ‫إلى المركز‪ ،‬ومنه إلى الحرب مباشرة»‪..‬‬   ‫ثم سأله عن رقم الشقة‪ .‬فقال له‪ ،‬الشقة الخمسين‬
       ‫كان الأرمني الصغير يضحك ويمسك ببطنه‬        ‫الواقعة على يمين الدرج مباشرة‪ .‬فنظر إليه في شك‪،‬‬
    ‫وكأنه يخشى أن يتبول‪ ،‬ثم يخبط ك ًّفا بكف غير‬
 ‫مصدق لما يسمعه‪ .‬فصاح الروسي بانتصار‪“ :‬لقد‬           ‫وأخبره أنها شقته‪ ،‬وأنه يعيش فيها‪ .‬فرد الشاب‬
 ‫خسر َت الرهان‪ ،‬يا رجل‪ .‬ستشتري زجاجة فودكا‬          ‫عليه بغضب وقال له إنها شقته هو‪ ،‬ويعيش فيها‬
   ‫من الحجم الكبير عندما يتوقف القطار في المحطة‬    ‫مع أسرته لعشرات السنين‪ .‬وبدأ صوت كل منهما‬
      ‫القادمة‪ ..‬ولكن ما اسمك‪ ،‬يا صديقي؟!”‪ ..‬هز‬       ‫يعلو‪ ..‬وقف أحدهما‪ ،‬فنهض الآخر‪ ..‬رفع الرجل‬
 ‫الأرمني رأسه مواف ًقا وهو لا يزال يضحك بصو ٍت‬       ‫الزجاجة وضرب الشاب في رأسه‪ ،‬فرفع الشاب‬
  ‫عا ٍل‪ ،‬وقال اسمي «آرام»‪ ،‬وراح يخرج النقود من‬
     ‫جيبه ويجهزها حتى لا يضيِّع الوقت‪ .‬رد عليه‬        ‫طبق البطاطس وقذفه في وجه الرجل‪ ..‬رفع كل‬
    ‫الروسي الضخم قائ ًل‪« :‬وأنا اسمي‪ ،‬فاسيلي»‪..‬‬    ‫منهما مقعده وراح يضرب الآخر به‪ ..‬نشبت معركة‬
      ‫وفجأة د َّوى صوت انفجار من بعيد‪ .‬لم يهتم‬    ‫واسعة بين الاثنين وراحت المقاعد والأطباق تتطاير‬
   ‫أحد من الجنود الذين كانوا لا يزالون يواصلون‬
‫ضجيجهم وضوضاءهم وفرحتهم وبهجتهم بإنهاء‬                ‫في كل الاتجاهات‪ ،‬وحدث هرج ومرج في البار‪.‬‬
 ‫الخدمة والعودة إلى أمهاتهم وزوجاتهم وأولادهم‪.‬‬       ‫فسأل أحد المارة العابرين عما يجري في الداخل‪،‬‬
   ‫وعندما د َّوى صوت الانفجار الثاني بشكل أكثر‬    ‫فرد عليه حارس البار‪ ،‬بأن هناك رج ًل وابنه يأتيان‬
     ‫وضو ًحا‪ ،‬انسحب الضجيج وحل محله صمت‬
‫مخيف ونظرات ملتاعة يائسة‪ ،‬وبانت على ملامحهم‬             ‫كل يوم‪ ،‬يشربان ويتحدثان ثم تنشب بينهما‬
 ‫نفس علامات الترقب والانتظار‪ .‬ساد صمت يشبه‬        ‫معركة كلامية لا تلبث أن تتحول إلى معركة يتحطم‬
     ‫نفس ذلك الصمت الذي يسبق سكون الغابات‬
‫والأحراش قبل الانفجارات‪ ،‬وبين الانفجار والآخر‪.‬‬                          ‫على أثرها البار كل يوم‪.”..‬‬
    ‫لمعت العيون كلغة وحيدة ممكنة في لحظة أدرك‬     ‫نسي الأرمني أحزانه‪ ،‬وراح يضحك كما لم يضحك‬
‫فيها الجميع أنهم في العراء‪ ،‬وظهرت رجفات خفيفة‬
     ‫في الأيادي‪ .‬قطع صرير فرامل القطار‪ ،‬صوت‬             ‫أب ًدا‪ ،‬وكأنه يطلق ضحكاته مثل الصواريخ في‬
     ‫السكون‪ .‬راحت حركة القطار تتباطأ تدريجيًّا‪،‬‬      ‫اتجاه ما تبقى في ذاكرته من سكون وصمت‪ .‬ثم‬
       ‫وتضيع دقاته المنتظمة في سكون عميق بارد‬
  ‫وخانق‪ .‬تعالت أصوات انفجارات متوالية تك َّس َرت‬       ‫طلب من صاحبه الروسي أن يكمل له حكايته‬
‫النظرات وانفرطت مثل حبات ُع ْقد وربما مثل أشعة‬       ‫مع الأب‪ ،‬وماذا حدث‪ ،‬وكيف استدعوه‪ .‬فقال له‬
   ‫شمس غاربة‪ ،‬وانطفأت العيون‪ ..‬تطايرت عربات‬          ‫وهو يمسح الدموع المتساقطة من شدة الضحك‪:‬‬
‫القطار كأنها في أحد مشاهد أفلام الكارتون‪ ،‬راحت‬       ‫“كان أبي مخمو ًرا في هذا اليوم‪ .‬ولا أحد يعرف‬
   ‫زجاجات الفودكا تتدحرج بين الأجساد المتناثرة‬        ‫لماذا كان غاضبًا‪ .‬حاول ُت الابتسام له ومداعبته‬
   ‫وضحكة متجمدة على وجه فاسيلي الدامي‪ ،‬بينما‬          ‫ببعض الكلمات لأمرر الأمر بهدوء‪ ،‬ولكن بدون‬
 ‫وجه آرام يبدو من تحت الدماء بعينيه السوداوين‪،‬‬     ‫فائدة‪ ..‬حاولت تفادي الكلام معه وعدم الرد عليه‪،‬‬
 ‫مثل أيقونة قديمة لقديس غارق في حزنه وأفكاره‪،‬‬         ‫لكنه صمم أن أقف أمامه وأسمعه حتى النهاية‪.‬‬
 ‫سارح في الملكوت يردد كلمات خافتة تتساقط مثل‬        ‫وفي الوقت نفسه كن ُت أنا مخمو ًرا ومنتشيًا بعض‬
  ‫قطرات ماء‪ ،‬بين اليأس والرجاء‪ ،‬وهو يربت بكفه‬      ‫الشيء‪ ،‬ولا أريد أن أصدع رأسي بأمور ومشاكل‬
‫على قلب امرأة لم يعد زوجها وابنها أبدا من الحرب‪.‬‬   ‫يمكن تأجيلها ليوم الغد‪ .‬وفي النهاية نشبت مشادة‬
                                                   ‫كلامية انتهت بأن صفعني‪ ،‬وكاد يدفع أمي عندما‬

                                                       ‫حاولت التدخل‪ .‬وفي الصباح‪ .‬عندما استيقظ ُت‬
                                                     ‫وخرج ُت من غرفتي‪ ،‬وجد ُت أبي واق ًفا ينتظرني‬
                                                      ‫على أحر من الجمر وعلى وجهه ابتسامة تشفي‬
                                                      ‫وانتصار‪ ..‬أشار لمندوبي مركز التجنيد نحوي‪،‬‬
                                                     ‫فنظر إل َّى هؤلاء الأوغاد بابتسامة واسعة شامتة‬
                                                      ‫ومنتصرة وكأنهم يقولون لي‪ ،‬أخي ًرا وقعت بعد‬
                                                      ‫سبع سنوات من الإفلات منَّا‪ ،‬وقعت أيها البطل‬
                                                   ‫المغوار الذي سيذهب للدفاع عن الوطن‪ ..‬وأخذوني‬
   82   83   84   85   86   87   88   89   90   91   92