Page 92 - m
P. 92

‫العـدد ‪58‬‬   ‫‪90‬‬

                                                    ‫أكتوبر ‪٢٠٢3‬‬

‫ليمثل لنا كيف قبض على المتهم‪ ،‬أو الشباب الهاربين‬       ‫نمشي فوق سطح البحيرة‪ ،‬نتبخترعلى ورد النيل‬
  ‫من التجنيد وسط الغيطان‪ ،‬يفيقون من نومهم على‬        ‫الذي غطى سطح الماء كأننا نمشي على طريق معبد‪،‬‬
   ‫شاربه‪ ،‬يجذبنا من ملابسنا‪ ،‬ينالنا بوكس خفيف‬
   ‫في الوجه‪ ،‬أحيا ًنا يجري لمسافة قصيرة‪ ،‬السعادة‬       ‫نمشي كالأولياء‪ ،‬تحول الورد إلى صديق لنا ولم‬
                                                       ‫يخنَّا إلا مرات قليلة حين كانت وردة فيه تغضب‬
‫تلعب على وجهه‪ ،‬يعرف أننا نصدقه من أفواهنا التي‬        ‫من رفيقها لأنه غازل وردة أخرى‪ ،‬تنسحب بعي ًدا‬
    ‫انفتحت من الدهشة بالبخار الكثيف بفعل البرد‪،‬‬       ‫عنه‪ ،‬تفك خيوطها من خيوطه فتنزلق ساق الواحد‬
                                                        ‫منا داخل الماء ليبتل البنطلون حتى أعلى الساق‪،‬‬
 ‫كان أكثرنا دفئًا من ر ْجع حكاياته على محيانا ومن‬   ‫نركب الأتوبيسات بالبلل‪ ،‬نتدفأ عند أقرب محل فول‬
       ‫بدلته الميري الصوف والبيريه الذي يعتمره‪.‬‬       ‫على الطريق إلى المدرسة حتى ينشف نصف نشفة‪،‬‬
                                                     ‫وقد ننتظر حتى يجف فتضيع منا الحصص الثلاث‬
  ‫صاحب دكان الجرائد يحكي في الوقت المتبقي من‬
‫الشاويش عن الزواج‪ ،‬يمطر الشاويش بالأسئلة لكنه‬                  ‫الأولى‪ ،‬أي نصف اليوم الدراسي تقريبًا‪.‬‬
                                                        ‫كنا أربعة نقطع الطريق يوميًّا سي ًرا على الأقدام‪،‬‬
   ‫ينظر ناحية صاحبة الفاكهة ينتظر الجواب‪ ،‬يقول‬           ‫شاويش في نقطة شرطة على مسافة عشر كيلو‬
    ‫للشاويش‪ :‬أنت مدرسة‪ ،‬وبصوت خفيض يقول‬                  ‫مترات‪ ،‬وواحد عايق‪ ،‬شاب لا حديث له إلا عن‬
                                                        ‫الزواج‪ ،‬يكاد يتزوج على نفسه‪ ،‬لديه دكان يأتي‬
 ‫للمرأة التي كانت متزوجة ومات عنها زوجها‪ :‬أنت‬          ‫ببضاعته من المدينة مع بعض الصحف‪ ،‬وواحدة‬
‫خبرة‪ ،‬الشاويش يضع أمام سيقاننا عصارة تجربته‬             ‫فارهة الطول بسمرة الريفيات‪ ،‬بتقاسيم مدورة‬
‫مع قضايا الزواج التي صادفته في البوليس‪ ،‬والمرأة‬        ‫تتلوى تحت جلبابها الطويل‪ ،‬تنبسط وتنعرج‪ ،‬في‬
                                                       ‫وسطها من الخلف متكأٌ بارز يصلح لتضع قد ًما‬
  ‫ترد بجملة واحدة تكنس كل ما قاله‪ ،‬يقول كحكيم‬         ‫وتصعد عليه‪ ،‬صاحبة دكان خضار‪ ،‬لم يكن عندنا‬
     ‫وهو يبرم شاربه‪ :‬الزواج استقرار والمرأة ترد‪:‬‬       ‫دكان خضار وفاكهة‪ ،‬لم نكن نعرف الفاكهة كما‬
                                    ‫الزواج لعب‪.‬‬      ‫يعرفها الناس‪ ،‬بلح يأتي من أقصى كفر الشيخ من‬
                                                       ‫منطقة البرلس‪ ،‬أو جوافة لا يدفع الناس ثمنًا لها‪،‬‬
‫شاب أهوج وأرملة منطلقة وشاويش حكيم وأنا بكل‬            ‫بل يقايضونها بصحن من الأرز الشعير‪ ،‬لم نكن‬
                  ‫هرمونات طالب الثانوية العامة‪.‬‬      ‫نعرف المانجو‪ ،‬والعنب يأتي أحيا ًنا‪ ،‬ولصعوبة اسم‬
                                                     ‫الكمثري كانت النساء تطلق عليها مترى‪ ،‬لم نعرف‬
    ‫وبائع الجرائد لا يكف كل يوم عن السؤال ذاته‪،‬‬       ‫الخوخ ولا المشمش إلا عندما ذهبنا للمدن‪ ،‬ما كان‬
  ‫يبحث عن الدفء ويبدو أنه وجده‪ ،‬تصطدم ساقه‬             ‫يأتي إلينا لم يكن سوى كناسة الفاكهة‪ ،‬كنا فقط‬
   ‫من الأمام بساق بائعة الفاكهة من الخلف‪ ،‬نصف‬       ‫نرتع في البرتقال واليوستفندي بسبب قربنا النسبي‬
   ‫مؤخرتها في نص حقويه‪ ،‬يفعل ذلك طول الطريق‬          ‫من أراضي إدفينا حيث قصر ومزارع الملك فاروق‪،‬‬
‫ربما ليتأكد من دفء فاكهتها الشتوية وأنا أتحسس‬         ‫فقط لم نعدم القصب الأحمر الذي عشنا نعتقد أنه‬
  ‫قلبي تحت البلوفر الأنيق السميك‪ ،‬أكثر دفئًا منهم‬      ‫أفضل من القصب الأخضر في الصعيد‪ ،‬والرمان‬
‫جمي ًعا‪ ،‬حبيبتي لم تقم من نومها بعد لكنها ستلحقنا‬   ‫يختبيء تحت ملابس البنات‪ ،‬يظهر في المواويل أكثر‬
                                                    ‫مما نراه في الدكاكين‪ ،‬وبدت البائعة لنا على اختلافنا‬
                                     ‫عند القطار‪.‬‬       ‫كدكان مكتظ بالفاكهة التي نحلم بها ولا نعرفها‪.‬‬
  ‫يقف الطلبة على محطة القطار لا يصعدون قبل أن‬       ‫نمشي‪ ،‬كل يوم نمشي‪ ،‬واحد واقع في غرام البوليس‬
                                                       ‫يحكي لنا كل صباح حكايات المجرمين‪ ،‬نتدفأ بها‬
     ‫تأتي حبيباتنا‪ ،‬وحبيباتنا طالبات في أوان فورة‬   ‫من برد نشفت أصابعنا منه حرفيًّا‪ ،‬يحكي لنا نصف‬
  ‫الغنج والدلال‪ ،‬يوق َّن أن القطار لن يتحرك قبل أن‬   ‫حكاية حتى نصل‪ ،‬أحيا ًنا يقف فجأة وسط الطريق‬
   ‫يصلن جمي ًعا‪ ،‬لن يستطيع السائق أن ينطلق ولو‬

                   ‫ركب مكانه مدير المحطة نفسه‪.‬‬
‫محطة جميلة كالأحلام من مخلفات الإنجليز الحلوة‬

      ‫رغم كرهنا لهم في حصة التاريخ‪ ،‬نعم نكرهم‬
    ‫في حصة التاريخ لما فعلوه بنا ونحبهم في حصة‬
‫الجغرافيا لما فعلوه في منطقتنا‪ ،‬قطار وكباري وترع‬

                   ‫ومصارف‪ ،‬وكلها أماكن للحب‪.‬‬
   ‫حين تتأخر حبيبتك ليس عليك سوى شيء واحد‬
   87   88   89   90   91   92   93   94   95   96   97