Page 86 - m
P. 86

‫العـدد ‪58‬‬   ‫‪84‬‬

                                                          ‫أكتوبر ‪٢٠٢3‬‬

     ‫ضحك الروسي بشدة‪ .‬وعندما سأله الأرمني‪،‬‬                                     ‫وكن ُت أراه لأول مرة يبكي»‪.‬‬
  ‫لماذا يضحك هكذا‪ ،‬وأن الأمر ليس فيه ما يضحك‪.‬‬              ‫ضحك الروسي بصو ٍت عا ٍل‪ .‬رفع زجاجة الفودكا‬
 ‫أجابه بتهديد ضاحك‪« :‬ستعرف الآن لماذا أضحك‪.‬‬
                                                              ‫وأخذ جرعة طويلة‪ .‬نظر إليه الأرمني في دهشة‬
    ‫ولكن إذا ضحكت أنت‪ ،‬فسوف تشتري زجاجة‬                    ‫وغضب‪ .‬ظن في البداية أنه يسخر منه ومن حكايته‬
 ‫فودكا من الحجم الكبير في أول محطة يتوقف فيها‬
                                                             ‫عن بكاء أبيه وتهديدات أمه بالذهاب إلى الرئيس‪.‬‬
   ‫القطار عقا ًبا لك»‪ .‬ابتسم الأرمني بشكل تلقائي‪.‬‬          ‫سأله في احتجاج‪« :‬لماذا تضحك؟ هل في كلامي أي‬
   ‫هز رأسه مواف ًقا‪ .‬ومسح الروسي دمعة سقطت‬                 ‫شيء يثير الضحك؟!»‪ ..‬واصل الروسي ضحكاته‪،‬‬
 ‫من شدة الضحك‪ .‬وأحاط الأرمني بذراعه الضخمة‬
   ‫وهو يتفحص وجهه الضاحك بعينيه السمراوين‬                      ‫وقال له‪« :‬سأحكي لك كيف ذهب ُت أنا إلى هذه‬
‫وملامحه التي تشبه ملامح القديسين في الأيقونات‬              ‫الحرب اللعينة التي لا أدري لماذا تدور أص ًل‪ ،‬ومن‬
                                                           ‫نحارب‪ .‬ولكن قبل أن أحكي لك‪ ،‬قل لي‪ ،‬أين تعيش‬
                                        ‫القديمة‪.‬‬           ‫في موسكو وماذا يعمل والدك‪ ،‬وماذا كنت تدرس‪..‬‬
‫قال الروسي وهو لا يزال يبتسم‪“ :‬قبل وصولي إلى‬
 ‫سن الإعفاء بثلاثة أشهر فقط‪ ،‬حدثت مشادة بيني‬                                           ‫هل أنت روسي؟”‪..‬‬
                                                             ‫قال له إنه مواطن روسي مثل بقية أفراد أسرته‪،‬‬
  ‫وبين أبي‪ .‬لا أتذكر السبب‪ .‬لكنه كان سببًا تاف ًها‪.‬‬       ‫ومثل جده وجدته‪ .‬لكنهم من أصول أرمنية‪ ،‬جاؤوا‬
  ‫ربما ُع ْد ُت متأخ ًرا إلى البيت‪ ،‬وربما كن ُت مخمو ًرا‬  ‫إلى روسيا قبل مئة عام‪ .‬يعيشون في قرية قريبة من‬
 ‫قلي ًل‪ .‬لا أتذكر بالضبط‪ .‬كل ما هنالك أنني عد ُت في‬         ‫موسكو‪ .‬يعمل الأب في شركة الكهرباء‪ ،‬ويمارس‬
   ‫ذلك اليوم منتع ًشا‪ .‬وكان الأب غاضبًا لسبب ما‪.‬‬           ‫أعما ًل جانبية في السباكة وإصلاح أعطاب الأجهزة‬
‫دخل ُت من باب الشقة‪ ،‬فوجدته في وجهي تما ًما وهو‬             ‫المنزلية‪ ،‬والأم تعمل بتدريس علم الثقافة والتاريخ‬
 ‫ينظر إل َّى نظرات حانقة‪ .‬بدأ وصلة احتجاج وزعيق‬            ‫في أحد معاهد المنطقة‪ .‬ماتت أخته الصغرى مؤخ ًرا‬
  ‫بسبب شيء لم أتبينه‪ ،‬ربما لأنني خرج ُت قبل أن‬            ‫أثناء وباء كورونا‪ ..‬راح يحكي عن تفاصيل حياتهم‪،‬‬
 ‫أساعد الأم في شراء احتياجات البيت‪ ،‬وربما لأنني‬
    ‫لم أخبره أين سأذهب ومع من سأسهر في ذلك‬                     ‫وعن طموحاته وأحلامه بالالتحاق بهذه الهيئة‬
  ‫اليوم‪ ..‬يبدو أنه كان هو الآخر مخمو ًرا قلي ًل‪..”..‬‬         ‫التي تحافظ على الحقوق العلمية والرقمية وتتابع‬

     ‫قطع الروسي الحكاية وقال للأرمني ضاح ًكا‪:‬‬                 ‫المخالفين جنائيًّا‪ .‬بينما حالته تتحسن تدريجيًّا‪،‬‬
 ‫«سأحكي لك نكتة‪ ،‬وسأكمل الحكاية فيما بعد‪ ..‬في‬                  ‫حتى أنه نسي البكاء تما ًما واستغرق في رسم‬
                                                             ‫صورة المستقبل‪ ،‬ومشاعر العودة واللقاء‪ .‬تناول‬
   ‫يوم من الأيام دخل رجل إلى أحد البارات وطلب‬              ‫جرعة فودكا صغيرة‪ ،‬وأخذ يحكي عن أبيه وكيف‬
 ‫زجاجة فودكا‪ .‬بدأ الشرب‪ .‬وبعد قليل‪ ،‬دخل شاب‬                ‫يعمل‪ ،‬وماذا حدث عندما ماتت أخته‪ ،‬وكم ستفرج‬
                                                           ‫أمه التي تنتظر الآن عودته‪ ..‬وعندما اتجه الحديث‬
    ‫هادئ‪ .‬وجلس على طاولة مقابلة‪ ،‬وطلب زجاجة‬                   ‫نحو الموت والانتظار‪ ،‬ضحك الروسي‪ ،‬وقال له‬
 ‫فودكا‪ .‬وبعد عدة كؤوس‪ ،‬نظر كل منهما إلى الآخر‬                ‫مباشرة‪ ،‬أنا لم أنفذ الاستدعاء للخدمة الإلزامية‪.‬‬
                                                           ‫أنهي ُت دراستي‪ ،‬ووجد ُت عم ًل جي ًدا في أحد المراكز‬
    ‫وابتسم‪ .‬وبعد كأسين أو ثلاثة أشار الرجل إلى‬                 ‫الخدمية بالمحليات‪ .‬ساعدني والدي في الإفلات‬
   ‫الشاب لكي ينضم إليه‪ .‬كان كل منهما قد قضى‬                 ‫من الاستدعاءات المتواصلة‪ ،‬وكانت أمي تستخدم‬
‫على زجاجته‪ .‬فطلبا زجاجة فودكا من الحجم الكبير‬                 ‫نفوذها في عملها لإلغاء هذه الاستدعاءات تارة‪،‬‬
‫وراحا يحتسيان ويتعرفان ببعضهما البعض‪ .‬سأل‬                    ‫وتوجيهها إلى عناوين خاطئة تارة أخرى‪ .‬كل ما‬
‫الرجل‪ ،‬الشاب‪ ،‬أين يسكن‪ .‬فقال له‪ ،‬في البيت الكائن‬           ‫كان يلزمنا هو أن أصل إلى سن الإعفاء من الخدمة‬
   ‫على أول الشارع‪ .‬فابتسم الرجل وأخبره أنه هو‬                ‫الإلزامية والتحول إلى الاحتياط‪ ،‬ثم يتحول الأمر‬
  ‫أي ًضا يسكن في نفس البيت‪ .‬وشربا نخب الجيرة‪.‬‬               ‫إلى قضية إدارية بسيطة تحسمها المحكمة بغرامة‬
                                                             ‫وينتهي الأمر‪ ،‬وأُ ْصبِح في عداد قوات الاحتياط‪..‬‬
      ‫سأله الرجل في أي طابق‪ .‬فقال له‪ ،‬في الطابق‬
‫الخامس‪ .‬ففرح الرجل وضحك بصوت عال وأخبره‬

   ‫أنه يسكن في نفس الطابق‪ .‬وشربا نخب الجيرة‪.‬‬
   81   82   83   84   85   86   87   88   89   90   91