Page 23 - merit 52
P. 23
21 إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
قول محمد دكروب« :للمكان هنا وجوده الحي أ -المكان في السيرة الذاتية
المتغلغل في نسيج تكوين الناس أنفسهم .له مزاجه
إن المقصود بالمكان السيرذاتي هو مسرح
الخاص ،كما لناسه تكوينهم الخاص وتقلباتهم الأحداث والفضاء الجغرافي ،الذي تدور فيه حركة
المترابطة حتى مع جغرافية المكان نفسه .هنا ،ليس الشخصيات .وهو عنصر سردي أساسي من جملة
المكان ديكو ًرا ورس ًما له بعض المعالم والتضاريس، العناصر ،التي لا يخلو منها عمل سيرذاتي .وهو
بل عضوية حية داخلة في الناس»( .)3إذ لا يحضر في الحقيقة مكان لغوي سردي ،تستحضره الذاكرة
البصرية للمترجم لذاته .فتستعيد تفاصيله ،و ُتعيد
كعنصر باهت وجامد ،بل يحضر من خلال فعله رسم حدوده ومعالمه ،وتمنحه صفاته وتأثيراته.
في تشكيل الأحداث ،وتحريك الشخصيات ،وتحديد
ُرؤية الكاتب ،ويستمد فاعليته في السيرة الذاتية من و ُيعو ُل عليه الكاتب في الاضطلاع بجملة من
طبيعة هندسته وتكثيفه ،ومما ُيوحي به من معلومات الوظائف ،من أهمها الوظيفة البنائية ،تلك التي تسهم
وظيفية ومن خلال أنواعه وأبعاده الرمزية وأشكال في تكوين هويته الفردية بخصائصها المميزة ،أو تلك
ظهوره ،ومن تبادله للفعل والتأثير مع شخصياتها، التي تجعله ُمفع ًل للأحداث ،و ُمحد ًدا لنوعها ،ودافعا
لأنه ُمؤثر في العلاقة بين الفردي والجماعي ،و ُمتأثر
بالشخصيات ،إلى اكتشاف ذاتها في ضوئه .حيث
بها في اللحظة ذاتها. تلتقي بغيرها وتبتكر ضرو ًبا من العلاقات ُتكسبها
وعيها بالمكان ،لقول جليلة الطريطر« :تخضع آليات
ب -أنواع المكان السيرذاتي
القراءة في دلالات المنظومة الفضائية ،إلى جدلية
تتنوع الأمكنة في المدونة السيرذاتية موضوع بحثنا، التذكر والتفكر ،مما يدل على أن مقومات المكان في
بتنوع هوية المترجم لذاته ،ومقر إقامته وحركة الخطاب السيرذاتي انتقائية ووظيفية في الآن ذاته»(،)1
تنقلاته ،ومحور اهتماماته .ولقد صنفناها ،إلى وتضطلع الوظيفة المرجعية بجعله ُمحي ًل على أفضية
أمكنة تنتمي إلى مجال الجغرافيا الطبيعية ،كالجبال واقعية ،وأمكنة فاعلة في نسيج الأحداث.
والسهول والأودية والحقول ،والغابات والمزارع لقد تفاوتت قيمة المكان في السرد التقليدي .فتحول
من ُمجرد ديكور ،لوصف خلفية الأحداث إلى عنصر
والشعاب ،والساحات والهضاب والمسالك والأنهار
والسماء والبحار والمحيطات والشلالات .وهي ُممتدة مركزي في السرد الواقعي حيث ُيوصف بدقة
على أربع قارات ،من مثل القارة الآسيوية والإفريقية ُمتناهية ،ليضفي على الأحداث واقعيتها كما هو
والأوروبية والأمريكية ،وإلى أمكنة تنتمي إلى مجال الشأن لدى بلزاك Balzacوزولا Zolaوفلوبير
الجغرافيا البشرية ،كالريف والقرية والحي السكني Flaubertونجيب محفوظ .غير أنه ما لبث أن فقد
حظوته في السرد الحديث ،حينما اع ُتبر مجرد عنصر
الشعبي ،والضواحي السكنية الراقية والشوارع سردي مثله مثل الزمان والشخصية ،وبأنه يفتقر إلى
والأسواق والمُؤسسات العمومية .وتتفرع هذه الواقعية ،لأنه لا ُيوجد إلا في اللغة ،مثلما يقول حسن
الأمكنة المُتصلة بالجغرافيا البشرية ،إلى أفضية بحراوي« :فهو فضاء لفظي ،فضاء لا يوجد سوى
من خلال الكلمات المطبوعة في الكتاب»( .)2كما تفاوت
حميمية خاصة ،مثل المكتب والغرفة الخاصة والمنزل الاهتمام به من مدرسة نقدية إلى أخرى .ومهما
العائلي والمنزل الفردي والسيارة الخاصة .وإلى يكن من أمر المكان ،في السرد القديم والحديث ،وفي
نظر دارسي الأدب ونقاده؛ فإن له مكانته المُميزة،
أفضية عمومية مفتوحة ،لالتقاء الفردي بالجماعي، في بناء السيرة الذاتية .فهو مسهم إلى حد بعيد في
ومن ذلك الفضاءات التعليمية العمومية ،كالمدرسة تشكيل ملامح الناس ،وتكوين طباعهم وأمزجتهم،
ونحت هويتهم .وهو بدوره متأثر بفعلهم فيه،
القرآنية في السيرة الذاتية لواسيني الأعرج(،)4 وبتطويعهم له ،ليصبح ُمعب ًرا عن حقيقتهم ،بدليل
والمدرسة المسيحية في البئر الأولى لجبرا إبراهيم
جبرا( ،)5والمدرسة الوطنية والمدرسة الابتدائية
والإعدادية ،والمعهد الثانوي ومبيته ومعهد الفنون
الجميلة ببغداد ،في السيرة الذاتية لعبد الرحمن