Page 71 - m
P. 71

‫‪69‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

     ‫التفاعل والتكامل الحر‪ ،‬وليس الدوران في فلك‬          ‫المطبوع بهذه الملكة‪ ،‬بل يجب عليه تحصيل العلوم‬
                                          ‫مقيَّد‪.‬‬                              ‫التي تعينه على صقل فنه‪.‬‬

‫ثم يتضح الجانب التعليمي ‪-‬وهو سمة كتاب مواد‬              ‫ويمد كتاب «مواد البيان» ال ُكتَّاب بهذه الأدوات التي‬
   ‫البيان‪ -‬بإيراد الأمثلة المختلفة للتصرف الحسن‬          ‫تعينهم على إجادة فنهم من جودة نسق‪ ،‬وسلاسة‬

 ‫في المعني السابق بحيث يستحقه اللاحق‪ ،‬والعكس‬               ‫أسلوب‪ ،‬وبلاغة تعبير‪ ،‬إلى غير ذلك من فضائل‬
‫ليحتذيه ال ُكتَّاب‪ .‬ومن أقسام هذا الباب تكافؤ المتبع‬     ‫إنسانية واشتمال على مكارم الأخلاق(‪ .)49‬والكتابة‬
  ‫والمبتدع مما يراه ابن خلف في قول امرئ القيس‪:‬‬
                                                                              ‫صنعة لها آلياتها ومنازلها‪.‬‬
                 ‫فلو أنها نفس تموت احتسبتها‬             ‫ويري «ابن خلف» أن السابق قد ضيق الطريق على‬
                     ‫ولكنها نفس تساقط أنفسا‬
                     ‫أخذه عبدة بن الطبيب فقال‪:‬‬                               ‫اللاحق‪ ،‬متمث ًل بقول عنترة‪:‬‬
                                                                           ‫هل غادر الشعراء من متردم‬
                  ‫فما كان قيس هلكه هلك واحد‬                   ‫ويختلف «ابن خلف» مع َمن رأى أن أبا تمام‬
                     ‫ولكنه بنيان قوم تهدما(‪)52‬‬              ‫م ِّجدد‪ ،‬وقد سيطرت عليه فكرة صعوبة موقف‬
                                                        ‫اللاحقين إزاء السابقين الذين لم يتركوا شاردة ولا‬
  ‫ويصرف «ابن خلف» همه في تبويب أخذ اللاحق‬                    ‫واردة تتيح لمن بعدهم أن يقدموا شيئًا جدي ًدا‪.‬‬
     ‫عن السابق ما حسن منه وما قبح شأن الكتب‬                   ‫لكن الأمر لا يكون كذلك‪ ،‬فقد استمر الإبداع‬
       ‫البلاغية التي تناولت السرقات الأدبية‪ .‬لكنه‬       ‫العربي وقد نهل أعلامه من المعين العذب للسابقين‬
     ‫في ختام الباب أقر للاحقين بالفضل‪ ،‬فلكل من‬                     ‫انطلا ًقا إلى ما يميز شخصيتهم الأدبية‪.‬‬
                                                             ‫وقد استغرق «ابن خلف» شط ًرا كبي ًرا من هذا‬
  ‫السابقين واللاحقين مرتبته‪ ،‬وفضله ومزيته(‪.)53‬‬                ‫الباب لإثبات أن بدائع أبي تمام مأخوذة من‬
    ‫ويختص الباب السابع من كتاب «مواد البيان»‬
                                                                                         ‫سابقيه‪ ،‬كقوله‪:‬‬
 ‫بأوضاع الخط وقوانينه وتقنيات الكتابة الديوانية‪.‬‬                            ‫على مثلها من أربع وملاعب‬
       ‫وجمال الخط له وقعه الحسن كجمال اللفظ‪.‬‬                          ‫أُذيلت مصونات الدموع السواكب‬
      ‫ويتطرق «ابن خلف» إلى عرض أشكال كتابة‬                       ‫مقر ًرا أنه مبتذل مطروق في الشعر قديمه‬

     ‫الحروف‪ ،‬وتحسين الخط وتصحيحه وتحقيق‬                                                     ‫وحديثه(‪.)50‬‬
      ‫حروف هجائه(‪ .)54‬كما يع ِّرف طرق المكاتبات‬         ‫وهذا يجعل الشعر العربي واق ًفا عند أبيات ابتكرها‬
    ‫وترتيبها من رئيس إلى مرءوس‪ ،‬ومن نظير إلى‬            ‫السابق‪ ،‬وتعد من المعاني العقم التي لم ُتسبق‪ ،‬فإذا‬
                                                         ‫تداولها التالون لم يستحقوا ما أجادوا منها لمجرد‬
               ‫نظير‪ ،‬ومن مرءوس إلى رئيس(‪.)55‬‬             ‫أنها وردت عند صاحبها الأول‪ ،‬وهذا غير معقول‪.‬‬
‫ويف ِّصل القول في العنوان‪ ،‬ويعده كالعلامة‪ ،‬ويقصد‬
                                                             ‫لكن «ابن خلف» الذي يجد اللاحق معذو ًرا في‬
    ‫به الإخبار عن اسمي الكاتب والمكتوب إليه(‪.)56‬‬               ‫إيجاد الجديد‪ ،‬لا يلبث أن يقرر أنه يمكن له‬
 ‫وكان «المأمون» يكتب في أ َّول عنوانات كتبه «بسم‬
                                                          ‫ترويض نفسه على الاختراع لكثرة المعاني‪ ،‬وهذا‬
                        ‫الله الرحمن الرحيم»(‪.)57‬‬           ‫ما يوضحه بقوله‪« :‬وإذا أراد أن يستعمل معني‬
     ‫ثم نلتقي بالباب الثامن الأخير في كتاب «مواد‬         ‫من المعاني المسبوق إلى اختراعها فلا يأخذه كاسيًا‬
      ‫البيان» وهو المختص برسوم المكاتبات‪ .‬وهي‬               ‫بلفظه وعبارته»‪ ،‬وإلا كان ذلك سرقة‪ ،‬بل يجب‬
‫الأصول الفنية للمكاتبات الديوانية وفق موضوعها‪،‬‬          ‫عليه أن يأخذ نفسه «بإنشائها في صورة من اللفظ‬
      ‫ويورد الكتاب أمثلة ضافية للكتابة في الفنون‬
‫المختلفة‪ ،‬ويكمل المحقق ما جاء منها في كتاب صبح‬                       ‫مباينة للصورة التي كانت عليها»(‪.)51‬‬
                                                           ‫وهنا لا نزال نرى السابق هو الأساس في إبداع‬
              ‫الأعشي‪ ،‬ولم يرد في «مواد البيان»‪.‬‬         ‫اللاحق الذي يتكلف مباينة السابق بشكل أو بآخر‪،‬‬
    ‫ويعد كتاب «مواد البيان» مثا ًل نظر ًّيا وتطبيقيًّا‬      ‫وهو ما ينافي تواصل المبدعين العرب من حيث‬
  ‫لما يجب أن تكون عليه فنون الكتابة الديوانية مما‬
    ‫يصلح أن يكون مثا ًل للكتابة النثرية في فنونها‬

                                        ‫الأخرى‬
   66   67   68   69   70   71   72   73   74   75   76