Page 343 - m
P. 343

‫‪341‬‬  ‫ثقافات وفنون‬

     ‫كتب‬

    ‫السارد إلى أناه الماضية‪ ،‬وهي‬      ‫على القصة‪ ،‬أما الآخر فإنه لا‬     ‫القصة‪ ،‬مصحوبة بحالتي الشك‬
    ‫أنا غارقة في الغموض والتيه‪،‬‬    ‫يتكلم (باستثناء بعض التدخلات‬           ‫والخوف اللتان تهيمنان على‬
 ‫بينما الحاضر غائب ولا يمثل أية‬    ‫المقتضبة في شكل خطاب داخلي)‬
                                    ‫ولكنه في العمق صوت مسموع‪،‬‬           ‫شخصيته‪ ،‬وهذا يعكس الحالة‬
                 ‫إضافة للسارد‪.‬‬     ‫مشحون بدلالات متعددة‪ ،‬تقترن‬        ‫النفسية المضطربة التي يعيشها‪،‬‬
      ‫في العادة‪ ،‬تكون العودة إلى‬                                       ‫فرغم أنه يحضر سار ًدا متماث ًل‬
     ‫الماضي من أجل وعي لحظة‬            ‫بالذات لإضاءاتها‪ ،‬وذلك عبر‬
   ‫معينة‪ ،‬ما كان بالإمكان الوعي‬        ‫علاقتين تربط السارد بباقي‬            ‫حكائيًّا‪ ،‬أي يحكي تجربته‬
     ‫بها لحظة حدوثها‪ ،‬لكن الذي‬                                          ‫الخاصة‪ ،‬إلا أن معرفته مختلة‬
‫يحدث في هذه القصة‪ ،‬هو العكس‪،‬‬                         ‫الشخصيات‪:‬‬       ‫وغير تامة شأن ذاكرته الموشومة‬
    ‫إذ العودة إلى الماضي‪ ،‬تكشف‬                ‫‪ -1‬علاقة التشابه‪:‬‬
     ‫لنا عن اختلال الذاكرة‪ ،‬وهذا‬        ‫فالتشابه يحضر بين بعض‬               ‫بلحظات الفراغ والاهتزاز‪.‬‬
  ‫الاختلال يحول دون انتظام أية‬       ‫الكائنات التي وظفها في الحكي‬     ‫يتولد عن النص سرد يعتمد على‬
    ‫معرفة عميقة بما يحدث‪ ،‬لأن‬        ‫كالصرصار الأسود والكرسي‬
    ‫الأحداث تأتي في شكل لمحات‬            ‫الفارغ‪ ،‬وكل منهما يعيش‬                            ‫أسلوبين‪:‬‬
‫خاطفة‪ ،‬وعبثية متناقضة في بعض‬          ‫العزلة والوحدة‪ ،‬بل إن معاناة‬       ‫‪ -1‬التبئير‪ :‬إذ إن السارد في‬
                                    ‫السارد تصبح جز ًءا من معاناة‬          ‫أغلب الأحيان يسرد ما يراه‪،‬‬
                       ‫الأحيان‪.‬‬      ‫الموجودات التي تعيش معه في‬       ‫فيصبح ما يرى موضو ًعا للقول‪.‬‬
  ‫معلوم أن الحاضر زمن الإدراك‬         ‫البيت‪ ،‬لأنها تشاطره الوحدة‪،‬‬        ‫‪ -2‬السرد الاسترجاعي‪ :‬من‬
   ‫للحصول على معرفة آنية تبدو‬      ‫ويمكننا أن نضع السارد كمعادل‬           ‫خلال استخدام الذاكرة التي‬
 ‫في البداية مستحيلة‪ ،‬لكن سرعان‬
  ‫ما تدخل دائرة الممكن حين تبدأ‬                              ‫لها‪.‬‬              ‫تحضر مصد ًرا للحكي‪.‬‬
   ‫الذاكرة بإحضار بعض الصور‬                  ‫‪ -2‬علاقة التعارض‪:‬‬       ‫وينتج عن هاتين التقنيتين توازي‬
 ‫المتقطعة عن الواقع‪ ،‬الشيء الذي‬     ‫تحضر هذه العلاقة بين السارد‬      ‫مكانين باعتبارهما مسر ًحا للحدث‬
‫تجاهله السارد وركز على الماضي‪،‬‬         ‫وبين رغبته من خلال محور‬        ‫وهما‪ :‬الذاكرة بالنسبة للمستوى‬
‫الذي يعد زمن السجن والحصار‪،‬‬          ‫دلالي هو‪ :‬الخوف الذي يعيشه‬       ‫الأول‪ ،‬وتتحدد من خلال دلالتها‬
                                    ‫«أخشى أن يقطع صوتك حبل‬           ‫المرجعية‪ ،‬كمكان مفتوح‪ ،‬ثم البيت‬
       ‫أتى به لملء ثغرة في المسار‬  ‫الصمت الرابط بين مشاعرنا»‪،‬‬
   ‫السردي الذي يحاول أن يحدد‬       ‫أما باقي الشخصيات التي يشير‬          ‫بالنسبة للمستوى الثاني الذي‬
                                     ‫إليها السارد‪ ،‬فإنها تأتي لتعزز‬    ‫يحضر كمكان مغلق‪ ،‬لكن‪ ،‬رغم‬
     ‫مداه بالاعتماد على التلخيص‬     ‫هذه العزلة والوحدة التي يشعر‬       ‫انفتاح المكان الأول‪ ،‬فإن السارد‬
  ‫والاختزال والتكثيف‪ ،‬جاع ًل من‬    ‫بها السارد‪ ،‬كما تسعى إلى إبراز‬       ‫يحضر محاص ًرا بمجموعة من‬
                                       ‫حالة المعاناة التي تثقله وهو‬      ‫الأسئلة‪ ،‬تعلن انغلاق الذاكرة‪.‬‬
   ‫القارئ مشار ًكا في القصة عبر‬                                         ‫في حين‪ ،‬يضيق البيت‪ ،‬ويفجر‬
     ‫تأويل هذا الغموض‪ ،‬وجعله‬                       ‫يبحث عن ذاته‪.‬‬      ‫صو ًرا‪ ،‬وإن كانت متقطعة‪ ،‬فإنها‬
                                    ‫أما الزمن السردي فيعرف نو ًعا‬    ‫توافينا بالجواب عن حيرة السارد‬
   ‫مساه ًما في تأثيث هذا الفضاء‪،‬‬     ‫من العبث‪ ،‬حيث يسرد السارد‬           ‫وهلوساته «وحدي وحدي لا‬
 ‫وهذا الزمان‪ /‬الثغرة‪ ،‬ومدر ًكا أن‬   ‫قصته في الحاضر‪ ،‬لكنها أحداث‬
                                                                          ‫أسمع إلا الصمت»‪ ،‬وهذا ما‬
   ‫الذاكرة لن تخضع أب ًدا للمسح‬        ‫وقعت في الماضي‪ ،‬يحملها في‬      ‫يجعل القصة رغم صغرها قادرة‬
                      ‫والنسيان‬     ‫ثنايا ذاكرته تفرض ذاتها وتزيح‬
                       ‫‪-----‬‬       ‫باقي الأحداث‪ ،‬مما يتيح للماضي‬           ‫على الإحاطة بمشاكل الذات‬
                                                                     ‫والآخر‪ ،‬وترقى لكي تسائل ما هو‬
     ‫‪ -‬أحمد بوزفور‪« ،‬نافذة على‬         ‫الحضور في الحاضر ليبسط‬
     ‫الداخل»‪ ،‬مجموعة قصصية‪،‬‬          ‫أحداثه أمام القارئ حيث يعود‬            ‫الاجتماعي في نبرة يائسة‪:‬‬
                                                                      ‫«لكنني لا أسمع حتى في الحلم‬
         ‫منشورات طارق ‪،2013‬‬
       ‫الصفحات ‪.51 -50 -49‬‬                                                           ‫سوى الصمت»‬
                                                                         ‫يبقى السارد‪ ،‬الصوت المهيمن‬
   338   339   340   341   342   343   344