Page 91 - مجلة تنوير - العدد الخامس
P. 91

‫لجنة الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا‬                   ‫المجلس الأعلى للثقافة‬

‫الذاتيـة وميدانـه الخـاص‪ .‬وقـد احتلـت إشـكالية‬               ‫المعرفيـة أو الخطـاب المعرفـي السـائد خـال كل‬
‫العلاقـة بيـن مـا هـو مرئـي ومـا هـو مكتـوب‪ )47(،‬أو‬          ‫فترة زمنية‪ ،‬كما تحدث عن المؤسسـات الاجتماعية‬
‫النص‪/‬الصـورة‪ ،‬مكانـة مهمـة فـي التـ ارث الغربـي؛‬             ‫والثقافيـة المهيمنـة‪ ،‬وكان مهت ًّمـا بالأشـكال المختلفـة‬
‫واتخـذت أشـكالا عديـدة وفًقـا للحقـول المعرفيـة التـي‬        ‫للسـلطة فـي المجتمعـات الحديثـة‪ .‬وفـي كتابـه‬
‫تمـت مناقشـتها‪ ،‬ففـي الأبسـتمولوجيا المعاصـرة كان‬            ‫«الم ارقبـة والمعاقبـة» تحـدث عـن الفحـص‪ ،‬فقـال‪:‬‬
‫السـؤال عـن الكيفيـة التـي تتـم بهـا عمليـة المعرفـة‬         ‫«إنـه يدمـج التقنيـات التـي ت ارقـب‪ ،‬وتقنيـات العقوبـة‬
‫واكتسـاب الوعـي‪ :‬أيهمـا يمتلـك الأولويـة والسـيادة‬           ‫التـي تضبـط‪ .‬إنـه نظـرة ضابطـة وهـو رقابـة تتيـح‬
‫علـى الوعـي‪ ..‬اللغـة أم المرئـي؟ هـل التفكيـر يتـم‬           ‫التوصيـف والتصنيـف والعقـاب‪ .‬إنـه يقيـم علـى‬
‫بواسطة اللغة؟ أي هل العقل ُيترجم كل ما ي اره إلى‬             ‫الأفـ ارد رؤيـة يمكـن مـن خلالهـا المفاضلـة بينهـم‬
‫لغـة؟ وبـدون هـذه العمليـة تفقـد الأشـياء دلالاتهـا‪،‬‬
‫أم أن المرئـي لـه لغتـه الخاصـة التـي تتجـاوز أيـة‬                                          ‫ومعاقبته ـم»‪)46(.‬‬
‫صياغـة لغويـة وتعلـو عليهـا؟ هـل اللغـة تسـتوعب‬
‫مـا هـو مرئـي بحيـث تنـوب عنـه فـي غيابـه؟ أم‬                ‫ويغطـى مفهـوم الفحـص – عنـد «فوكـو» – كل‬
‫أنهـا مجـرد قوالـب وصياغـات تحفـز الذهـن علـى‬                ‫مـا يحـدث خـال عمليـات فحـص المرضـى فـي‬
                                                             ‫العيـادات والمستشـفيات‪ ،‬وفحـص المسـاجين فـي‬
                  ‫اسـتحضار الصـورة والمشـهد؟‬                 ‫السـجون‪ ،‬وفحـص التلاميـذ فـي المـدارس‪ ،‬والجنـود‬
                                                             ‫فـي معسـك ارت الجيـوش‪ ،‬وغيـر ذلـك مـن المواقـع‬
‫وفـى كتـاب «دولـوز»(‪ )48‬عـن «فوكـو» – المعرفـة‬               ‫التـي تجـرى فيهـا عمليـات الفحـص التـي تُحـول‬
‫والسـلطة – يتحـدث «دولـوز» بتوسـع عـن إشـكالية‬               ‫الإنسـان إلـى شـيء أو رقـم أو موضـوع مناسـب‬
‫العلاقـة بيـن نظـام المرئيـات ونظـام العبـا ارت‪ ،‬ويـرى‬
‫أن كلا منهما له عالمه المسـتقل والمتمايز‪ ،‬وليس‬                                     ‫للرؤيـة والعـرض والتقييـم‪.‬‬
‫هنـاك أولويـة لأحدهمـا عـن الآخـر‪ ،‬وإن مـا بيـن‬
‫الـكلام والرؤيـة – أو مـا ُيـرى ومـا ُيعبـر عنـه –‬           ‫إن تحليـل عمليـات الفحـص هـذه توضـح العلاقـة‬
‫ثمـة انفصـالا‪ ،‬فمـا ُيـرى لا يجـد موقعـه إطلاًقـا فيمـا‬      ‫بيـن الضوابـط أو القيـود الاجتماعيـة والسياسـية‬
                                                             ‫وسـلطة النظـرة المحدقـة أو قدرتهـا الخاصـة علـى‬
                        ‫يقـال‪ ،‬والعكـس صحيـح‪.‬‬                ‫تحويـل البشـر إلـى موضوعـات تجـرى م ارقبتهـا‬
                                                             ‫وعقابها عند الضرورة‪ .‬ومن خلال النظرة المحدقة‪،‬‬
‫ولعـل «دولـوز» بهـذا المفهـوم يعبـر عـن رفضـه‬                ‫وكـون المـرء دائ ًمـا موضو ًعـا وهدًفـا لهـذه النظـرة‪،‬‬
‫لأطروحـة «بـارت» التـي ذهـب فيهـا إلـى «أنـه مـن‬             ‫يجـرى التحكـم فـي سـلوك المجرميـن وتأهيلهـم‪ ،‬ومـن‬
‫الصعـب تصـور نسـق مـن الصـور أو الأشـياء‬                     ‫ثـم تصبـح النظـرة المحدقـة الخارجيـة بعـد ذلـك نظـرة‬
‫تسـتطيع مدلولاتهـا أن توجـد خـارج اللغـة‪ ،‬فـا وجـود‬          ‫محدقـة داخلًّيـا‪ ،‬أي يصبـح السـجين هـو السـجان‬
‫للمعنـى إلا باللغـة‪ ،‬وعالـم الدلالـة مـا هـو إلا عالـم‬       ‫هـو الم ارقـ َب والم ارِقـب‪ ،‬وقـد أصبحـت هـذه الآليـة‬
‫اللغة‪ ..‬إذن كل نظام دلالي يمتزج باللغة‪ ،‬والماهية‬             ‫أو هـذه المنظومـة الخاصـة بالم ارقبـة والعقـاب جـزًءا‬
‫البصريـة تعضـد دلالتهـا مـن خـال اقت ارنهـا برسـالة‬
‫لسـانية؛ كالسـينما والهزليات والصور الصحفية»(‪)49‬‬                     ‫مـن الفكـر البصـري فـي العالـم الحديـث‪.‬‬

‫لكـن ينفـي «دولـوز» إمكانيـة أن تحـل اللغـة‬                  ‫وانطلـق «جيـل دولـوز» مـن مفهـوم «فوكـو» بـأن‬
‫محـل الأشـياء‪ ،‬كمـا أن الصـورة لا يمكـن أن تحـل‬              ‫عمليـة المعرفـة والتفكيـر تنشـأ مـن خـال ارتبـاط‬
‫محـل اللغـة‪ ،‬ولا توجـد علاقـة مـن أي نـوع بيـن‬               ‫عالم الرؤية أي عالم الصور‪ ،‬بعالم الكلام أي عالم‬
                                                             ‫اللغـة؛ وكل عالـم مـن هذيـن العالميـن لـه اسـتقلاليته‬

                                                         ‫‪91‬‬
   86   87   88   89   90   91   92   93   94   95   96