Page 114 - ميريت الثقافية العدد 30- يونيو 2021
P. 114

‫العـدد ‪30‬‬                           ‫‪112‬‬

                                                               ‫يونيو ‪٢٠٢1‬‬

‫وجدي الأهدل‬

‫(اليمن)‬

‫بابل تحكم العالم‬

     ‫كانت هذه عادته التي ابتكرها بنفسه للتنكيد على‬        ‫يوريبيديس‪« :‬أكره السياسي الذي يكون بطبعه بطيئًا‬
 ‫الراغبين في دخول مصر! وزيادة في تنغيصهم لم يكن‬          ‫في نفع وطنه‪ ،‬سري ًعا في إيذائه‪ ،‬نشي ًطا من أجل نفسه‪،‬‬
‫يمكث إلا قلي ًل‪ ،‬ثم يغادر إلى داره على متن عربة خفيفة‬    ‫خام ًل من أجل المدينة»‪ .‬من مسرحية الضفادع‪ ،‬تأليف‬

                              ‫يجرها جواد أصيل‪.‬‬                 ‫أريستو فانيس‪ ،‬وتأتي الجملة في سياق مناظرة‬
‫يتداولون وراء ظهره أنه َي ُم ُّت بصلة قرابة للملك‪ ..‬وأن‬       ‫بين الكاتبين المسرحيين العظيمين (أيسخولوس)‬

                       ‫د ًما ملكيًّا يجري في عروقه‪.‬‬                                       ‫و(يوريبيديس)‪.‬‬
  ‫كان في الخمسين أو أقل‪ ،‬نحي ًل‪ ،‬أشيب شعر الرأس‪،‬‬                           ‫عام ‪ 100‬بحسب التقويم البابلي‬
‫ويبدو أكبر من عمره‪ ،‬ومن يراه وهو لا يعرفه يظنه قد‬        ‫إحدى عشرة قافلة قادمة من الشمال اُح ُت ِجز ْت في منفذ‬
                                                            ‫(غزة) الحدودي‪ ،‬ولم ُيسمح لها بالعبور إلى مصر‪.‬‬
                               ‫أوفى على المائة عام‪.‬‬      ‫ليس تحام ًل‪ ،‬ولكن الحقيقة يجب قولها‪ :‬المصري‪ ،‬قائد‬
‫جاريته السوداء كالكحل‪ ،‬المجهولة الأصل‪ ،‬كانت تحلق‬          ‫حرس الحدود الشمالية‪ ،‬المعروف باسم (تناح رامبا)‬
                                                                     ‫كان الرجل الأكثر بطئًا على مر العصور‪.‬‬
     ‫له وجهه كل صباح‪ ،‬و ُتط ّري بشرته بزيت اللبان‪،‬‬          ‫ح ًّقا؟! ربما هذا ليس من شأننا‪ ،‬إنه أمر يخصه هو‬
      ‫ورغم ذلك لم يستعد جلده رونقه‪ ،‬ولا تمكن من‬          ‫فقط‪ .‬ولكن بالنسبة للكون الذي نحيا فيه‪ ،‬فإن الأشياء‬
                                                           ‫متصلة ببعضها‪ ،‬ويمكن لرمشة عين أن ُتحدث فر ًقا‬
             ‫الظهور بوجه ُمن ّع ٍم يبوح بمقامه العالي‪.‬‬
‫قبل بضع سنوات تناول كب ًدا مسمو ًما في (بئر السبع)‪.‬‬                                    ‫و ُتغيّر تاريخ العالم‪.‬‬
                                                          ‫(تناح رامبا) كان يستغرق ثلاث ساعات للوصول إلى‬
  ‫لقد نجا من الموت‪ ،‬ولكنه لم يشف تما ًما‪ ،‬وترك السم‬
      ‫حول شفتيه وذقنه بقعة في سواد الفحم مجعدة‬              ‫المخفر الحدودي‪ ،‬مع أن القلعة المستديرة التي يخلد‬
                                                            ‫للنوم فيها لم تكن نائية‪ ،‬والراجل النشيط يمكنه أن‬
‫بحبوب حمراء ملتهبة‪ .‬وبين الحين والحين كان يعاني‬               ‫يقطع المسافة في إحدى عشرة دقيقة بكل سهولة‪.‬‬
‫من تشنج عضلات جسمه فيعجز عن الحركة أو النوم‪.‬‬                ‫كانت لديه مشية غريبة‪ :‬يخطو بقدمه اليمين خطوة‬
 ‫يصر (تناح رامبا) على أن البابليين هم الذين سمموه‪،‬‬       ‫واحدة‪ ،‬ثم يرتاح وينظر للأمام مستنش ًقا أكبر قدر من‬
                                                         ‫الهواء‪ .‬وبعد عدة ثوا ٍن يدق الأرض بعكازه ثلاث دقات‬
                  ‫ومن غيرهم لهم مصلحة في قتله؟‬           ‫حازمة‪ُ ،‬يحملق في المسافة التي ستقطعها قدمه اليسرى‬
    ‫تحذيراته لم يصغ لها أحد‪ ،‬ثم أثبتت الأيام أنه على‬       ‫ويلوح في وجهه التردد‪ ،‬ثم يسحب تلك القدم العليلة‬
  ‫حق‪ ،‬فقبل شهر واحد‪ ،‬لقي الملك حتفه مسمو ًما‪ ..‬ولا‬          ‫زح ًفا على التراب‪ ،‬على ثلاث دفعات‪ ،‬دون أن يرفعها‬
   ‫يزال التحقيق جار ًيا لمعرفة المتورط أو المتورطين في‬
                                                                                                  ‫مطل ًقا‪.‬‬
                                           ‫قتله‪.‬‬
        ‫كان (تناح رامبا) على يقين تام بأن شبكة من‬
 ‫الجواسيس البابليين هي التي نفذت عملية اغتيال الملك‬

                                         ‫بالسم‪.‬‬
   109   110   111   112   113   114   115   116   117   118   119