Page 122 - ميريت الثقافية العدد 30- يونيو 2021
P. 122

‫العـدد ‪30‬‬   ‫‪120‬‬

‫يونيو ‪٢٠٢1‬‬

‫ستمر بينهما الذات الشاعرة على نحو سلس دون هذا‬
 ‫الحاجز‪ ،‬فكأنه الاحتمال الممنوع والمرفوع أو الجسر‬
 ‫الذي تتخطاه بالتجاهل والإهمال‪ .‬وهو ما يكشف في‬
  ‫حقيقة الأمر عن الصراع الخفي بين الذات الشاعرة‬
  ‫وبين الموت كما لو كان وح ًشا قاب ًعا في كهف العقل‬
  ‫والروح ويفرض نفسه عليهما ولا يبقى أمامها غير‬
  ‫محاربته أو التصدي له ومجابهته في القصيدة التي‬

      ‫تصبح ساحتها المختارة والمثالية‪ ،‬فتكون الذات‬
‫الشاعرة واثقة من الانتصار عليه فيها دون أي ساحة‬

                                   ‫أخرى‪ .‬تقول‪:‬‬
                                      ‫أمام قبري‬

                              ‫أمتص دم القصيدة‬
                      ‫فتنمو الأزهار فوق جسدي‬

                                     ‫حين أموت‪،‬‬
                                  ‫اقطفوها برفق‪،‬‬
                          ‫ثم اغرسوها أمام قبري‬
                                 ‫ولا تأتوا ثانية‪.‬‬
 ‫في أعماق هذه الصورة الشعرية طاقة تمرد وجموح‬
   ‫دفينة وقوية‪ ،‬ترغب الذات الشاعرة بأن تمتص دم‬
    ‫القصيدة الذي هو رحيقها‪ ،‬في دورة عكس دورة‬
 ‫إنتاج النحل للعسل‪ ،‬تعيد الأشياء لأصلها وجذورها‪،‬‬
‫ومن رحيق القصيدة ينبت الجسد أزها ًرا ويتحول إلى‬
‫وجود آخر‪ ،‬تقول للناس اقطفوها برفق‪ ،‬فهي روحها‬
 ‫أو هي دماء القصيدة‪ ،‬وهذه الدورة التحويلية تصنع‬
‫تخيي ًل خا ًّصا للقصيدة يدور معه المتلقي بعقله وكأنه‬
 ‫في رحلة أو حركة موازية‪ .‬وتتجلى ذروة التمرد ليس‬
 ‫فقط في مفارقة الهيئة والتحول‪ ،‬بل في أنها تطلب من‬
    ‫زوارها أو قاطفي الأزهار ألا يعودوا مرة أخرى‪،‬‬
‫فكأنها تريد أن تقطع صلتها بوجودها القديم وتنساه‬
                              ‫وتنسلخ عنه تما ًما‪.‬‬
    ‫من بين استراتيجيات القول الشعري التعبير عن‬
     ‫ذات مذكرة‪ ،‬وعدم الانغلاق في حدود النوع‪ ،‬بل‬
  ‫تعبر النصوص عن حالات إنسانية عامة‪ ،‬نجد مث ًل‬
   ‫بعض القصائد تتأسس على ضمير المتكلم وأخرى‬
   ‫تتأسس على ضمير المخاطب‪ ،‬والحقيقة أن الاثنين‬
  ‫مجرد تنويع جمالي ليس أكثر‪ ،‬مع إضافة حالة من‬
‫المصارحة أو المكاشفة من الذات لنفسها‪ .‬وكأن الذات‬
  ‫الشاعرة تنسل خارج نفسها لتتمكن من رؤيتها أو‬
 ‫الإحساس بها على نحو أشمل‪ ،‬أو أن هذا الشكل من‬
 ‫مخاطبتها يصنع حا ًل من الحوارية وتعدد الأصوات‬
‫في القصيدة‪ ،‬فتتجاوز رتابتها أو غلبة الصوت المفرد‪.‬‬
   117   118   119   120   121   122   123   124   125   126   127