Page 124 - ميريت الثقافية العدد 30- يونيو 2021
P. 124

‫العـدد ‪30‬‬   ‫‪122‬‬

                                                        ‫يونيو ‪٢٠٢1‬‬

  ‫حتى بعد الموت‪ ،‬يبدو لغ ًزا غبيًّا أو أحجية لا حل لها‬    ‫وهكذا مما يكرس لنموذج إنساني متمرد ومتحرك‬
         ‫أو لا اكتمال لمعالمها في أي مرحلة أو محطة‪.‬‬      ‫بلا توقف‪ ،‬حتى وإن أضحت حركته داخلية‪ .‬فكأنما‬
                            ‫تقول في مقطع مبهر‪:‬‬          ‫الوجود في النهاية هو الذي يضيق عليه ولا يستوعب‬
                               ‫سأمضي في الليل‬
                                ‫حين ُيل ُّف العال ُم‪،‬‬       ‫جموحه‪ ،‬ومن هذه القيمة الدلالية المركزية تتفجر‬
                             ‫بثوب الحياة الأعمى‬                               ‫غالبية استعارات النصوص‪.‬‬
                                 ‫سأرتدي العدم‪،‬‬
                                 ‫كي يمتص دمي‬              ‫ويمكن أن نلاحظ مث ًل غلبة مفردات الحذاء والقدم‬
                          ‫ويمحو ذاكرتي الغائمة‪.‬‬            ‫والمشي‪ ،‬ويلاحظ أن القدمين تنخلعان وتنفصلان‬

   ‫إن اللحظة التي اختارت الذات الشاعرة أن تمضي‬                 ‫وكأنهما أضحتا مسكونتين بحركة صاحبهما‬
 ‫فيها لهي دالة بالتأكيد على الحالة الشاملة القابعة في‬      ‫واكتسبتا من تمرده الكثير‪ ،‬وترتبط القدم والحذاء‬
  ‫أعماقها من الرغبة في التلاشي والاختفاء أو الهرب‪،‬‬      ‫بالطرق والدروب التي دائ ًما ما يتيه فيها هذا النموذج‬
  ‫لأن السمة الأهم في الليل أنه يخفي ويطمس الملامح‬       ‫الإنسان الساكن للنصوص أو تشتغل النصوص على‬

    ‫أو يلغي الكينونة تما ًما‪ .‬وليس هذا في الحقيقة هو‬                                           ‫مقاربته‪.‬‬
    ‫جوهر شعرية المقطع‪ ،‬بل إن الشعرية في تقديرنا‬         ‫ثمة تكرار لقيمتين هما تجمد الدماء‪ ،‬وحبس للدموع‪،‬‬
     ‫تنتج عن التناغم الساحر بين الليل وثوب الحياة‬        ‫وهما في الحقيقة تدلان على حال من القهر القابع في‬
  ‫الأعمى‪ ،‬وذاكرتي الغائمة‪ ،‬فهنا ثلاث مستويات من‬          ‫الأعماق‪ ،‬هذه الذات التي مهما تحركت أو انطلقت لا‬
    ‫الإظلام تتدرج من الداخل إلى الخارج‪ ،‬من أعماق‬          ‫تشعر في نفسها غير الثبات والجمود‪ ،‬ومهما عبرت‬
     ‫الشخصية حيث لا يكون هناك أعمق من الماضي‬
  ‫أو الذاكرة التي أصبحت غائمة وغامضة مثل غرفة‬             ‫أو صرخت أو قالت في نهي أو أمر‪ ،‬تبدو محبوسة‬
   ‫يهيمن عليها الظلام‪ ،‬وهذه هي بداية الانفصال عن‬           ‫الصوت ومحبوسة الدموع‪ ،‬ومهما قالت من شعر‬
‫الذات‪ ،‬ثم ثوب الحياة الذي يصبح أعمى‪ ،‬والحياة هنا‬          ‫ثمة قصيدة لم تقلها وتفتش عنها وتعيش مسكونة‬
  ‫تتمثل في كل ما يمكن أن يشكلها من حركة وتنفس‬             ‫بهاجس ضياع هذه القصيدة أو فنائها مع الجسد‪.‬‬
 ‫وصخب وكسب وانطلاق‪ ،‬ويصبح كله أعمى لأنه في‬                 ‫والحقيقة أن الوحدات الثابتة أو المتكررة يمكن في‬
   ‫وعي الذات الشاعرة ‪-‬وربما لاوعيها‪ -‬بلا قيمة أو‬         ‫حال رصدها ورصها واستكشافها في ضوء بعضها‬
  ‫هدف‪ ،‬وكأنها كلها حركات مجانية‪ ،‬فلم تختلف عما‬
‫هو حاصل بداخل الشخصية من الذكريات الغائمة أو‬                  ‫أن تساعد في استجلاء مسارات تشكيل المعنى‬
 ‫ما هو حاصل في المستوى السطحي وكان في البداية‬           ‫وكشف الذهنية المبدعة وما فيها يشغلها من الكهوف‬
   ‫من أن تمضي في الليل‪ ،‬فيكون الليل على هذا النحو‬       ‫العميقة التي يقبع فيها المعنى وتمثل بؤ ًرا تتفجر منها‬
‫حاصل في داخل الشخصية وخارجها‪ ،‬كما هو حاصل‬
    ‫في الحياة في قمة فورانها أو حيويتها وحاصل في‬                           ‫النصوص أو الحالات الشعرية‪.‬‬
                                                             ‫ثمة حضور لافت وبارز للجسدانية في نصوص‬
                          ‫سكونها وهدوئها كذلك‪.‬‬             ‫هذه المجموعة‪ ،‬كافة أعضاء الجسد‪ ،‬بما تشكل من‬
‫والحقيقة أن هذه المجموعة الشعرية على قدر كبير من‬          ‫عوائق أو أعباء أو أثقال تحملها الذات‪ ،‬كل الأعضاء‬
 ‫الثراء والخصوصية على المستويين الجمالي والدلالي‪،‬‬            ‫هي سدود بينها وبين حريتها‪ ،‬وتصبح في قمة‬
                                                            ‫إشكاليتها في حال النضج لأنها تسقط مثل ثمرة‬
  ‫وتصبح محفزة على التأويل وحافلة بالرمز وتقارب‬            ‫استوت‪ ،‬ويلاحظ أن الذات الشاعرة تستشعر أزمة‬
 ‫حالات إنسانية عديدة‪ ،‬وفيها حركة كبيرة في الزمان‬        ‫بل ربما أزمات فيما يخص اللغة وعلاقتها بالتسميات‬
‫والمكان‪ ،‬حركة داخلية وخارجية‪ ،‬في أعماق النفس كما‬         ‫وبالجسد‪ ،‬فكأن الإشكالية لغوية في المقام الأول وأن‬
                                                           ‫افتقاد اللغة تما ًما هو بداية التحرر‪ .‬ومن هنا فإن‬
   ‫هي حركة بينية في الحدود الفاصلة بين الثقافات‪،‬‬            ‫الأذن أو الرأس أو الفم أو غيرها حين تحضر في‬
 ‫الريفية وثقافة المدينة وغيرها‪ .‬وهي حافلة بالأنساق‬      ‫النص فهي في الغالب تحضر بوصفها أزمة وإشكالية‬
 ‫اللغوية والتركيبية الكاشفة والمشكلة لمسارات دلالية‬      ‫لا مفر منها‪ .‬حتى الكلمات فإنها تنفلت منها في نوع‬
                                                        ‫من مراوغة اللغة للذات المتكلمة التي تريد الهيمنة على‬
   ‫مهمة‪ ،‬يمكن تتبعها أو بحثها بشكل تفصيلي أوسع‬             ‫العالم بالشعر وهي هيمنة لتنسيق العالم وتقريبه‬
                                                        ‫وفهمه‪ ،‬فهو يبدو غام ًضا وعصيًّا وصعبًا ومستحي ًل‬
   119   120   121   122   123   124   125   126   127   128   129