Page 76 - 31- ميريت الثقافية- يوليو 2021
P. 76

‫العـدد ‪31‬‬   ‫‪74‬‬

                                                    ‫يوليو ‪٢٠٢1‬‬

‫نبيل سليمان‬

‫(سورية)‬

‫الاختفاء*‬

‫غالب ذلك الكارم الذي كان منذ عاد من المغرب دون‬                        ‫‪-1‬‬
  ‫أن يودع تولاي‪ ،‬حتى دقت الساعة وانشق القمر‪،‬‬
    ‫حين احتلت مجموعة صغيرة من الشباب لأول‬             ‫منذ الظهيرة أخذت الساحة الأكبر والأقدم تتلاطم‬
  ‫مرة هذه الساحة‪ ،‬فأخلتها هتافاتهم من السيارات‬          ‫بمئات الشباب‪ .‬أهل المقاهي والمطاعم والدكاكين‬
  ‫والدراجات النارية وعربات الباعة الجوالين‪ ،‬ومن‬          ‫والعيادات والمكتبات والمخابر ومكاتب المحامين‬
     ‫شرطة المرور والمتسكعين والصبية المتسولين‪.‬‬             ‫والاستيراد والتصدير واتحاد الكتّاب واتحاد‬
                                                         ‫الصحافيين وصالونات التجميل و‪ ..‬وقفوا على‬
‫في تلك الظهيرة اقتحم صياح الجيران خلوة كارم في‬
                   ‫المكتبة‪ :‬الشباب جنّوا‪ .‬مظاهرة؟‬   ‫الأرصفة العريضة‪ .‬منهم من تلاحق عيونهم ذويهم‬
                                                        ‫في المظاهرة‪ ،‬منهم من ينكر على عينيه ما تريان‪،‬‬
    ‫جرى كارم إلى سيارته‪ .‬أسرعت السيارة به إلى‬
    ‫انعطافة الشارع الأولى‪ :‬ارجع‪ ،‬الطريق مقطوعة‪،‬‬     ‫ومن ير ّد خوفه بالهرج والزحام‪ ،‬منهم من يتضاعف‬
‫صاح به فتيان يركضون قادمين من نهاية الشارع‪.‬‬         ‫خوفه كلما انفجرت هتافات الشباب بسقوط الرئيس‬
    ‫أعاد السيارة إلى البوابة‪ ،‬وأسلم كهولته لساقيه‬
‫اللتين طارتا به إلى الساحة‪ ،‬مثلما ستطيران بعد أقل‬                                          ‫والنظام‪.‬‬
   ‫من ساعة‪ ،‬عندما تملأ المدخلين الشمالي والغربي‬        ‫تحتل مصطبة قسم الشرطة الفسيحة شط ًرا من‬
‫من مداخل الساحة شاحنتان‪ .‬وتقفز من كل شاحنة‬           ‫الزاوية الجنوبية للساحة‪ .‬المصطبة خالية‪ ،‬لكن رتبًا‬
 ‫بذلات سود وخوذات سود وأبواط سود وهراوات‬
    ‫وتروس والصيحات التي تطلقها قوات مكافحة‬               ‫شتى تتلصص على المظاهرة من نوافذ الطوابق‬
                                                    ‫الضاربة في السماء‪ .‬على الدرجات العشر التي تس ّور‬
                            ‫الشغب التليفزيونية‪.‬‬     ‫القسم وتصل بلاط المصطبة بإسفلت الساحة يتنمر‬
‫كان كارم قد عاد من المغرب ممتلئًا بالتحدي‪ .‬وحين‬
                                                      ‫عشرات الشباب‪ .‬منهم من يحملون الهراوات التي‬
   ‫عاين البيت أح ّس بالانتهاك‪ ،‬لكأن أح ًدا يغتصبه‪.‬‬  ‫تضرب المتظاهرين في التليفزيون‪ .‬منهم من يحملون‬
‫لكنه سرعان ما ضحك ساخ ًرا من سرقتهم وعبثهم‬
  ‫وأذيتهم‪ :‬البيت الآن بلا تليفزيون أو جرة الغاز أو‬        ‫الكلاشينكوف‪ ،‬أو يحملون البنادق التي تطلق‬
                                                       ‫الرصاص المطاطي على المتظاهرين في التليفزيون‪،‬‬
   ‫أي زجاجة من الويسكي‪ ،‬ولا زجاجة من العرق‪.‬‬
       ‫البيت الآن بلا الكؤوس والملاعق والسكاكين‬          ‫بينما يتساءل كارم‪ :‬هل نحن في استوديو؟ هل‬
                                                    ‫نحن ُص َور؟ هل نحن في مسلسل تجري كتابته مثل‬
     ‫وفناجين القهوة الاحتياطية التي كانت لا تزال‬
    ‫مخبوءة في علبها‪ .‬حتى العبوات الاحتياطية من‬                            ‫تمثيله وإخراجه على الهواء؟‬
     ‫معجون الأسنان أو معجون وشفرات الحلاقة‪،‬‬            ‫كانت نيبالين قد شهدت مظاهرات أخرى أصغر‪،‬‬

         ‫سرقوها‪ .‬ولكن لماذا مزقوا صور اللوحات‬            ‫منذ تفشت بقعة زيت المظاهرات في البلاد‪ .‬كان‬
‫الحمارية؟ لماذا بعثروا رفوف المكتبة وخزانة الثياب‬     ‫كارم قد تفرج على بعضها‪ ،‬لكنه هذه المرة لم يأت‬
 ‫والمصنفات وعلب السي‪.‬دي؟ هل كانوا يبحثون عن‬            ‫متفر ًجا‪ .‬كارم الآن هو الأجفان المتهدلة وتجاعيد‬
‫مال أم عن ذهب؟ أم أرادوا أن يدمروا ما رهن كارم‬      ‫الجبين والرقبة‪ ،‬مما يضاعف كهولته المحشورة بين‬
                                                      ‫الشباب‪ .‬رفع قبضته مثلهم‪ ،‬هتف مثلهم‪ ،‬ثم غلّلت‬
                                                        ‫الكهولة ذراعه وحنجرته‪ ،‬لكنه ظل يغالبها مثلما‬
   71   72   73   74   75   76   77   78   79   80   81