Page 277 - ميريت الثقافية رقم (34)- أكتوبر 2021
P. 277

‫‪275‬‬          ‫ثقافات وفنون‬

             ‫سيرة‬

‫محمود درويش‬  ‫عبد الرحمن الكواكبي‬      ‫سلطان باشا الأطرش‬                       ‫في صدر بيتنا في دمشق‪ .‬والتي‬
                                                                               ‫التقطها له الاستعمار الفرنسي‬
                        ‫بجانبه‪.‬‬             ‫ويحتاج الهدوء والمكان يتسم‬        ‫من أجل إصدار هويات الانتداب‬
 ‫فقال الباشا‪« :‬تعالي يا بايي‪ ..‬تعالي‬    ‫بالوقار وغير مناسب لاصطحاب‬             ‫الفرنسي دون لفة الرأس؛ وقد‬
‫يا بايي»‪ ،‬وربت على حضنه‪ ،‬جلست‬         ‫الأطفال‪ ،‬وأنا كما ليم (ابنتي) اليوم‬      ‫قام والدي بتعديلها عند رسام‬

   ‫في حضنه‪ .‬حضنني كما تحضن‬                     ‫في قمة النشاط والحيوية‪.‬‬           ‫وإضافة اللفة البيضاء ‪-‬التي‬
   ‫الأوطان أبناءها‪ .‬وكم كنت مح ًّقا‬   ‫غير أن أبي كان مص ًّرا على مرافقتي‬        ‫تشبه تصوفه الروحاني‪ -‬بعد‬
  ‫حين نطقت مقولتك الشهيرة‪ ،‬بل‬                                                   ‫وفاته لأنه يدرك كم كان يؤلمه‬
 ‫فعلت مقولتك الشهيرة «الدين لله‪..‬‬           ‫له‪ ،‬قال‪ :‬عليها أن تتعرف على‬
                                          ‫جدودها‪ ،‬قد لا تصادف قط في‬                 ‫أنه أُجبر على خلعها بقوة‬
               ‫والوطن للجميع»‪.‬‬            ‫حياتها مثل هذه الشخصية‪ .‬كم‬                               ‫السلاح‪.‬‬
      ‫أما طفولتي الأكثر نض ًجا في‬     ‫كنت على حق يا أبي؛ من أين لنا أن‬
  ‫وطني الثاني‪ :‬فرنسا‪ ،‬الذي كافح‬          ‫نلتقي اليوم بسلاطين وباشوات‬              ‫السويداء وطني ومحافظتي‬
 ‫جدي الأكبر‪ ،‬قائد الثورة السورية‬          ‫مثل سلطان باشا الأطرش وما‬               ‫الأم‪ ،‬مسقط رأسي الذي لم‬
    ‫الكبرى‪ ،‬سلطان باشا الأطرش‪،‬‬                                                 ‫يسقط به رأسي لكن سقطت به‬
   ‫لجلائه عن وطني الأول سوريا‪،‬‬                           ‫أحوجنا إليهم‪.‬‬          ‫روحي وكياني كله منذ الأزل‪،‬‬
     ‫وكأن لعنة الأوطان تلاحقني‪،‬‬         ‫كانت المضافة مليئة بالشخصيات‬            ‫تثير ف َّي مشاعر غاية في العمق‬
   ‫مرض لا يشبه مسرحية موليير‬                                                    ‫كما فوهات براكينها الخامدة‪،‬‬
    ‫المتمارض‪ ،‬التي مثلتها في فرقة‬           ‫العامة التي أتت من كل حدب‬             ‫تؤجج خوالج ذاكرة عطرية‬
      ‫المسرح المدرسي في مراهقتي‬            ‫وصوب للاطمئنان على صحة‬               ‫مثل رائحة التراب الداكن يوم‬
                                            ‫الباشا؛ وهو جالس في صدر‬         ‫المطر وأشجار التفاح يوم القطاف‪،‬‬
        ‫الفرنسية؛ التي تشبه حياة‬          ‫المضافة‪ .‬وكنت الطفلة الوحيدة‬         ‫والبيادر السمراء يوم الحصاد‪.‬‬
    ‫الفتيات هناك‪ ،‬الكثير من الكتب‬         ‫في المكان الذي يعج بالرجالات‪،‬‬         ‫تذكي ف ّي أحلا ًما ليست وردية‬
 ‫والجينز ممزق وأغاني الثمانينيات‬        ‫وكما عهدتموني إلى اليوم لا أكف‬       ‫بل بيضاء‪ ،‬شديدة البياض عكس‬
   ‫الرومنسية‪ .‬وحين تم ترشيحي‬            ‫عن الحراك‪ .‬أشار الباشا أن يأتي‬
                                           ‫والدي بي إليه‪ ،‬فأجلسني أبي‬                     ‫حجارتها السوداء‪.‬‬
                                                                                ‫السويداء التي لم أقطنها يو ًما‬
                                                                              ‫تركت في وجداني مسكنًا خاو ًيا‬
                                                                            ‫بالأخص بعد إحدى الزيارات حين‬
                                                                              ‫اصطحبني والدي لزيارة خاصة‬
                                                                             ‫ومميزة إلى الجبل في عمر الثلاث‬
                                                                            ‫سنوات‪ ،‬حيث كانت هناك محطتين‬
                                                                           ‫رئيسيتين‪ ،‬كما هو حال كل زياراتنا‬
                                                                                ‫إلى الجبل حتى اليوم‪« :‬امتان»‬
                                                                            ‫مسقط رأس أبي و «شهبا» مسقط‬
                                                                              ‫رأس أمي‪ .‬لكن تلك الرحلة كانت‬
                                                                           ‫مختلفة‪ ،‬إذ تخللتها زيارة ذات طابع‬
                                                                           ‫وطني رغم حميميتها‪ .‬ذهبنا لزيارة‬
                                                                             ‫سلطان باشا الأطرش ‪-‬الذي كان‬
                                                                                ‫آنذاك مري ًضا‪ -‬للاطمئنان على‬
                                                                             ‫صحته‪ .‬قد أشار الجميع على أبي‬
                                                                           ‫بعدم اصطحابي لأن الباشا مريض‬
   272   273   274   275   276   277   278   279   280