Page 104 - مجلة التنوير العدد الخامس
P. 104
لجنة الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا المجلس الأعلى للثقافة
القـارئ مختلطـا بمـا يتوهمـه مـن صـوت المقـروء .تاليـة ،عندمـا أتـرك الكتـاب وأنصـرف عنـه ،وأسـتريح
وكأن القـ ارءة حـال مـن أحـوال الوجـد هـي بيـن مـن أصـداء الصـوت التـي تلاحقنـي ،عندئـذ أبـدأ فـي
الوعـي والذهـول عـن المـكان« ،ثـم لا تلبـث القـ ارءة اجتـ ارر بعـض مـا قـ ارت ،وأسـتطيع حينئـذ أن أتوقـف
أن تصبـح اسـتماعا للكلمـات مقـروءة بصـوت أقـرب عنـد هـذه الفكـرة أو تلـك لأنظـر فيهـا فأقبلهـا ،أو
أؤجـل الحكـم عليهـا ،أو أنتقدهـا»)9(. إلـى صـوت المؤلـف كمـا أتخيلـه .وتفقـد القـ ارءة
بذلـك هويتهـا لتصبـح لونـا مـن المناجـاة .نعـم تصبـح
والقـ ارءة علـى هـذا النحـو ليسـت ترفـا ولا تعبيـ ار مناجـاة وليسـت حـوا ار .فأنـا لا أناقـش الكاتـب عـادة
عـن الفائـض مـن الوقـت ولا شـوقا إلـى متعـة عابـرة.. ولكنـي أسـتمع إليـه وهـو يتكلـم علـى مسـمع منـي».
وكيـف تكـون ذلـك وهـي تمثيـل للوجـود الفعـال
بالاتصـال مـع ذوات لهـا حضورهـا القـوي مـع أنهـا ()8
غائبـة عـن العيـان ،ولهـا قدرتهـا علـى الملاحقـة
هـذا اللـون مـن القـ ارءة لـون ذو طقـوس منهـا
والإلحـاح علـى عقـل القـارئ ووجدانـه..؟! الخلـوة والانقطـاع عـن كل الكائنـات المحيطـة،
فقـد يسـتمهلمصطفى سـويفالكاتب مـن حيـن لآخـر ومنهـا التوحـد مـع المقـروء فـي حـال مـن التلقـي
لأن عقله لايكاد يلاحقه ،وقد يطوي الكتاب ليرغمه والاسـتقبال ،ومنهـا صعـود الحـال بالذهـول عـن
علـى التمهـل أو التوقـف لاسـترداد أنفاسـه ،وهـو فـي الجسـد حتـى يمكـن الذهـول عـن ضيـق المـكان الـذي
كل ذلـك يتهيـأ للانتقـال مـن حـال التلقـي إلـى حـال لـم يعـد لـه حـدود ولا أركان مظلمـة .فهـو أكثـر
الحوار والجدل .ومصطفى سـويف وهو يحدثنا عن
هـذا التفاعـل بينـه وبيـن ال ُكَتّـاب وأفكارهـم لايتحـدث إشـ ارقا وأكثـر رحابـة.
عـن ذاتهالمجـردة بـل يتحـدث عـن ذاتـه المحوريـة
التـي تجمـع كل أطـ ارف العالـم بأركانـه وأزمانه.فبعـد فـي هـذا المـكان تتحقـق كل الحريـة للقـارئ فـي
اسـتقبال الكاتـب الـذي يتحـول إلـى صـورة متخيلـة،
واسـتقبال عالمـه مـن الأفـكار علـى علاتهـا دون
المسـاس بهـا وبصوتـه المسـموع .والمناجـاة هنـا هـي اجتـ ارر مـا يقـ أره يتوقـف عنـد الفكـرة وينظـر فيهـا ،إمـا
إرسـال بفعـل المتلقـي واسـتقبال بإ اردتـه فكأنـه القـارئ أن يقبلهـا أو يؤجـل الحكـم عليهـا أو ينتقدهـا ،لكنـه
لا يفعـل أيـا مـن ذلـك إلا بعـد أن يبتعـد عـن المقـروء والمقـروء معـا.
ولكـن هـذا التلقـي علـى هـذا النحـو أشـبه بجمـع وينظـر إليـه مـن بعيـد.
رحيق الأزهار .فالنحلة تمتص كل الرحيق وتحفظه ويبـدو أن العزلـة التـي ارتضاهـا مصطفـى
ثـم تتهيـأ بعـد ذلـك لإفـ ارزه وتنظيمـه .فمصطفـى سـويفعن العالـم المحيـط بـه ،أفضـت بـه إلـى عالـم
سـويف ينتقـد الكاتـب المقـروء وينشـئ معـه حـوا ار أرحـب وأكمـل مـن العالـم الاجتماعـي المعيـش.
جديـدا بعـد الجمـع والتخزيـن والاسـتيعاب ،بمـا يعنـي فالقـ ارءة غـدت لديـه فعـا حيويـا وعالمـا متكامـا..
«هكذا أق أر الآن ..وتعتبر الق ارءة بالنسـبة لي طريقا الابتعـاد لوقـت مـا عـن تأثيـر المقـروء والانفعـال بـه.
إلـى عالـم متكامـل ومكتـف بذاتـه ،يمتعنـي ويشـق
علـي فـي آن معـا .وقـد عرفتـه علـى هـذا النحـو يقـول مصطفـى سـويفعن الكاتـب الـذي يسـتمع
منـذ اكتشـفته فـي فتـرة م ارهقتـي وقـد ظـل علـى مـا إليـه“ :قـد أسـتمهله مـن حيـن لآخـر لأن عقلـي
هـو عليـه طـوال هـذه السـنين .كل مـا فـي الأمـر أن لايـكاد يلاحقـه .وقـد أطـوي الكتـاب لكـي أرغمـه على
بعـض خصائصـه وأحوالـه ازداد مـع الأيـام وضوحـا التمهـل أو التوقـف حتـى أسـترد أنفاسـي ،غيـر أنـي
واسـتق ار ار فـازداد تمكنـا منـي وازددت تمكنـا منـه». لا أحـاوره ،ولا أجدنـي مسـتعدا للجـدل إلا فـي مرحلـة
104