Page 95 - merit 53
P. 95
93 إبداع ومبدعون
القصة في تونس
فقط الأحياء من يتسببون بموت الأبرياء .بهدوء تأملت الصفحة ناصعة البياض إلا من بعض
اِنسحبت دون أن أغلق الدرج ،عن قصد ،فبياض جملة بقيت معلقة أعلى الورقة بالوسط؛ «ملتقى
بشرتها لن يتحمل الظلمة ،ولا نقاء تفاصيلها قد الأدباء للقصة القصيرة» وشعرت بقشعريرة هزت
يتحمل خشونة الدرج أو مساميره المثبتة بجوانبه جسدي لم أشعر بها لما كنت ألج المشرحة بنفس
الداخلية ،كما أن براءة ملامحها التي أشعلت ذاك اليوم ،حين دلفت داخلها بعدما فتحت بابها
ضجي ًجا بصدري قد تبعثرها برودة الثلاجة الحديدي وطفقت أتجول بالممر الوحيد الذي يفصل
فيقتحم شبح الموت صفاءها بعنف. الجدارين ،حيث تصطف الأدراج من أعلى السقف
هل تراني أسعى لبعث بطلتي من موتها القاتم حتى الأرضية ،بينما منضدة ضخمة مغطاة بلحاف
بعدما عجزت عن خلقها على الصفحات الناصعة؟ أبيض تتوسط الممر العريض .كانت الغرفة باردة،
واستدرت تارك ًة «الجميلة الفاتنة» تنام بمرقدها غارقة في صمت مريب ،اِقتربت من درج يحمل
لكن ليس بسلام ،فأكيد روحها تحوم حول قاتلها. جثة رجل ،فتحته ،ملأت أنفي رائحة «المورفين»
سمعت خطوات تخرق الصمت ،حبست أنفاسي ،ثم المنبعثة منه بسبب كثرة استخدامها على جثته
اقتربت من المنضدة المنتصبة بوسط الغرفة وبقيت لتحفظها ولتكون بحالة تسمح لنا بالاشتغال عليها
أرقب دون حراك ،اِقتربت الخطوات ،سمعت صو ًتا أثناء الدروس التطبيقية بحضور الطلبة .أعدت غلق
أجش يقول: الدرج واختفى الوجه الشاحب ،غير أن فكرة أكثر
-من هنا ..تعال! شحو ًبا راودتني فجأة؛ فل َم لا أستلهم من عملي
ابلوأبجيل،ضفااللمنوقستدلمتعألىخرجانب ْي خلف اللحاف تواريت أحدا ًثا واقعية تكون مادة لكتابة نصي الذي أبى
وبقيت أرقب المنضدة أن يولد؟ فواقعية الأحداث كفيلة برفع الصمت عن
والظلمة بدأت تنتشر بالمكان ولا أحد يقترب من نص أكتبه بعي ًدا عن وحي الخيال ،فمع كل موت
هذه الغرفة بهذا التوقيت الذي أدمنته طيلة الأيام ولادة وقصة حقيقية ستحول بياض صفحاتي إلى
الثلاثة المنقضية ،حيث صرت أسمح لنفسي
بزيارتها والنظ ِر إليها ،ملامستِها ،جس نبضها سواد ثري.
وقلبها ،فأحدثها علها تريحني من عناء تساؤلاتي. لكن ما عسى الأموات يحدثونني وقد ُمنع عنهم
اِقترب شبحان من الدرج الذي فتحته آن ًفا حيث
تنام بطلتي الساحرة. ال َقص والإخبا ُر؟
-اِفتح الدرج لأرى! حركت قلمي في محاولة ثانية ،عادت إلى ذهني
-هات المبلغ أو ًل!
لمحت أحدهما من خلف الخرقة المتدلية يسلم صورة جثة الفتاة..
ورقات نقدية ،تسلمها مرافقه دون عدها ،دسها كنت بجولتي المعتادة داخل المشرحة لما دنوت من
بجيبه قبل أن يرفع ساطو ًرا كان بيده اليسرى،
حرك الدرج ،وضع يده على ذراع الفتاة ..وما كادا الدرج ،فتحته ،جذبته بهدوء .كانت جميلة ج ًّدا،
يشرعان في مباشرة ما خططا له حتى صارت كل فاتنة ،بملامح بريئة تتحدى رسومات الموت على
جميعها. ثم ُفتحت مخي ًفا ااِلأسدترمارجالتقضررعبقرواًعلا مضبرجي ًحاج وجهها ،تنام بسلام بينما خصلات من شعرها
هول أنهار من وكدت مثبتة على جبينها وعلى خدها الأيمن ،بأعلى رأسها،
القرع يصم أذني ،لمحت الأوراق النقدية تتناثر بكل تلبدت خصلات اصطبغت بدم صار جا ًّفا .نظرت
الفضاء وصوت الأجش يردد في ذعر: إليها ،أدقق بتفاصيلها الساحرة ..تساءلت :ترى من
-خد نقودك وانصرف عني بسرعة! فعل بها ما فعل؟ ول َم ل ْم تحضر عائلتها للبحث عنها
ودون أن يجيبه مرافقه اِنطلقا في هلع شديد
مغادر ْين المشرحة. واستلامها؟
أدركت أن حواسي لم تخني ،تما ًما كما أشعر بهذه شعرت بالأسى لموتها ،إذ كيف لوجه ملائكي جميل
اليد الباردة تلامس رأسي فتسري برودة شديدة
أن يلجمه صمت الموت وجبروته؟
لكأن جمالها تحدى الموت فلم يدعه يعبث ببياض
بشرتها ،ولم أشأ بدوري أن أدع ظلمة الدرج تلتهم
تفاصيلها النقية.
سمعت الباب الحديدي يفتح ثم يغلق بقوة .لم
أنزعج ولم أرتبك ،فالأموات لا يشكلون خط ًرا ،هم