Page 56 - تنوير 4-8
P. 56

‫لجنة الفلسفة وعلم الإجتماع والأنثروبولوجيا ‪ -‬المجلس الأعلى للثقافة‬

‫فقـد انطلـق مـن د ارسـة الطبيعـة البشـرية علـى غـ ارر مـن الأفـ ارد؛ فهـي واحـدة فـي كل الأفـ ارد بوصفهـا مصـدًار‬
‫«هوبـز» – وسـائر المفكريـن الإنجليـز فـي الأخـاق – للشـقاء والألـم والمعانـاة‪ .‬ومـن هنـا يشـعر بالتعاطـف‬

‫لكنـه عنـى عنايـة خاصـة بتحليـل مفهـوم التعاطـف أو والمشـاركة الوجدانيـة مـع الآخريـن‪ .‬وهـذا مـا تعبـر عنـه‬

‫المشـاركة الوجدانيـة تحليـا نفسـًّيا دقيًقـا بهـدف اسـتنباط الحكمـة الهنديـة التـي تقـول‪Tat Tvam asi (This art :‬‬
‫قواعـد السـلوك الأخلاقـي الصحيـح‪ .‬فوجـد أن التعاطـف هـو ‪ )!thou‬ومعناهـا‪« :‬أنـت هـو ذاك»‪ )62(.‬أي أن الإنسـان‬

‫العنصـر النهائـي الـذي يكفـى وحـده لإقامـة صـرح الحيـاة فـي هويـة مـع غيـره مـن الكائنـات‪ .‬وللوصـول إلـى فضيلـة‬

‫الأخلاقيـة‪ ،‬ووجـوده لا يحتـاج إلـى دليـل أو برهـان‪ .‬يقـول‪« :‬الشـفقة» أو «التعاطـف» لا بـد مـن اجتيـاز مرحلـة أولـى‬

‫«مـن المألـوف أن يتألـم المـرء لآلام الآخريـن‪ ،‬وتكـ ارر هـذا هـي «العدالـة»‪ ،‬إذ إن الرغبـة فـي العدالـة تخفـف مـن حـدة‬

‫الإ اردة وتأكيـد الأنانيـة‪ ،‬لأنهـا بمثابـة اختـ ارق للحصـار الـذي‬  ‫الأمر يبطل الحاجة إلى البرهان على وجود هذا التعاطف‬
‫يضربـه مبـدأ «الفرديـة» حـول الفـرد‪ ،‬واعتـ ارف منـه بـأن‬           ‫لـدى النـاس»‪ )59(.‬لقـد أرى «سـميث» أن الإنسـان يتأثـر‬
‫غيـره يشـارك فـي الماهيـة ذاتهـا؛ أي فـي الإ اردة‪ .‬وبمعنـى‬         ‫بالانفعـال الطيـب أو الخِّيـر‪ ،‬تأثـره بالانفعـال السـيء سـواء‬
‫أوضـح‪ ،‬إننـا نعتـرف بحـق الغيـر فـي التمتـع بـكل مـا لنـا‬          ‫بسـواء‪ .‬لكـن الحـق خـاف ذلـك؛ لأن القلـب إذا تُـرك علـى‬
‫مـن حقـوق‪ ،‬لذلـك لا ينفصـل مفهـوم «التعاطـف» عـن هـذا‬              ‫طبيعتـه وسـار وفـق فطرتـه‪ ،‬اتجـه إلـى فعـل الخيـر وقدمـه‬
‫الشـعور‪ .‬وبنـاء علـى ذلـك يـرى شـوبنهاور أن الإنسـان‬
‫الخِّيـر هـو الـذي يرتفـع فـوق مبـدأ «الفرديـة» فيشـعر بـأن‬        ‫علـى غيـره مـن الأفعـال‪ .‬إذن تتجـه حركـة التعاطـف إلـى‬
‫الوجـود بأسـره وحـدة كاملـة‪ ،‬وأن البشـر والكائنـات جمي ًعـا‬
‫شـيء واحـد؛ هـذا الإنسـان الخِّيـر يسـتطيع أن ُيكمـل طريـق‬         ‫الطيبـة الخيـرة‪ ،‬ولذلـك يجـوز أن نطلـق هـذا الحكـم – كمـا‬
‫الفضيلـة والتعاطـف ليصـل إلـى درجـة الكمـال أي درجـة‬               ‫يقـول «سـميث» – «لا تطلـب أن تنـال سـوى التعاطـف‪،‬‬

                                         ‫القداس ـة‪)63(.‬‬            ‫ولا تفعـل إلا مـا يسـبب رضـا أق ارنـك واستحسـان إخوانـك‬
                                                                   ‫فـي الإنسـانية»‪ )60(.‬ويذهـب أي ًضـا إلـى أن القواعـد العامـة‬
                                                                   ‫للأخـاق تنشـأ مـن جملـة التأليـف بيـن أحـكام الموافقـة‬

‫والإحسـان‪ ،‬أو أحـكام المخالفـة والاسـتهجان‪ ،‬ممـا يطلقـه الخير وأخلاق المنفعة‬
                                                                   ‫النـاس علـى سـلوك أق ارنهـم‪ ،‬فيعكسـون أصـداء تعاطفهـم‬
‫إذا كانت العصور القديمة قد شهدت عديدا من مذاهب‬                     ‫أو نفورهـم‪ .‬ولهـذا قـرر «سـميث» أن م ارعـاة هـذه القواعـد‬
‫«الخيـر أو السـعادة» ذات النزعـة الفرديـة‪ ،‬فـإن ظهـور‬              ‫هـي الإحسـاس الحـق بالواجـب‪ ،‬هـي المبـدأ الوحيـد الـذي‬
‫الكثيـر مـن المشـكلات الحديثـة المتعلقـة بالجماعـة والدولـة‬
‫والقانـون‪ ،‬قـد عمـل علـى قيـام مذهـب جديـد اتسـم بالنزعـة‬                        ‫تسـتطيع غالبيـة النـاس أن توجـه أفعالهـا‪.‬‬

‫وتقـوم الفضيلـة عنـد «شـوبنهاور» ‪ Schopenhauer‬الاجتماعية‪ ،‬ينظر إلى «الخير»على أساس علمي تجريبي‬
‫(‪ )1788:1860‬علـى مبـدأ الشـفقة أو التعاطـف‪ ،‬وهـذا ويرجـع إلـى التجربـة لكـي يتحقـق مـن أن الشـيء الواحـد‬
                                                                   ‫المبـدأ هـو بمثابـة إنـكار لمبـدأ «الفرديـة»‪ ،‬وبالتالـي‬
‫الـذي يرغبـه النـاس جمي ًعـا إنمـا هـو «السـعادة»؛ ويسـمى‬          ‫إنـكار للأنانيـة؛(‪ )61‬ومـن ثـم فإنـه يمثـل مرحلـة أو صـورة‬
‫هـذا المذهـب «بالمنفعـة العامـة»‪ )64(.‬وليسـت المنفعـة فـي‬
‫لإنـكار الإ اردة ذاتهـا‪ .‬فالإنسـان يصـل إلـى الفضيلـة – أو نظـر أصحـاب هـذا المذهـب سـوى المبـدأ الأخلاقـي الـذي‬
‫التعاطـف – عندمـا يسـتطيع برؤيـة حدسـية أن يختـرق يفضـي إلـى تحقيـق أكبـر سـعادة ممكنـة‪ ،‬فالخيـر– فـي‬
‫حجـاب «المايـا» أو الوهم‪،‬عندئـذ سـيدرك أن الفرديـة خـداع أريهـم – يسـاوى مـا هـو «نافـع» لنـا‪ ،‬وهـذا «النافـع» إنمـا‬
‫وزيـف‪ ،‬وأن الإ اردة كمـا توجـد فيـه‪ ،‬فإنهـا توجـد فـي غيـره يكـون فـي الوقـت نفسـه ناف ًعـا لغيرنـا‪ .‬ويلجـأ «بنتـام» إلـى‬

                                          ‫‪56‬‬
   51   52   53   54   55   56   57   58   59   60   61