Page 54 - تنوير 4-8
P. 54

‫لجنة الفلسفة وعلم الإجتماع والأنثروبولوجيا ‪ -‬المجلس الأعلى للثقافة‬

‫أ ارد أن يجعـل بدايـة إصلاحـه الفكـري الظفـر بطريقـة قويمـة لتغييـر نظـام العالـم‪.‬‬

‫أمـا «اسـبينو از» فقـد أحـدث تغييـًار أساسـًّيا فـي النظـرة‬     ‫للحصـول علـى المعرفـة الحقيقيـة‪ ،‬بواسـطة النـور الفطـري‬
‫الفلسـفية إلـى مجـال الأخـاق‪ ،‬فهـو يرفـض تفرقـة الفلاسـفة‬       ‫فينـا جمي ًعـا وهـو نـور العقـل‪ .‬يقـول‪« :‬أعنـى بالمنهـج جملـة‬
‫التقليدييـن بيـن مجـال المعرفـة النظريـة (الميتافيزيقـا)‪،‬‬       ‫قواعـد مؤكـدة تعصـم م ارعاتهـا ذهـن الباحـث مـن الوقـوع فـي‬
‫ومجـال المعرفـة العمليـة (الأخـاق)‪ .‬ويؤكـد أنـه كلمـا‬           ‫الخطـأ‪ ،‬وتمكنـه مـن بلـوغ اليقيـن فـي جميـع مـا يسـتطيع‬
‫تعمقنـا فـي فهـم قوانيـن الطبيعـة الشـاملة‪ ،‬كنـا أقـدر علـى‬     ‫معرفتـه‪ ،‬دون أن يسـتنفد قـواه فـي جهـود ضائعـة»‪) 42(.‬‬
‫فهـم سـلوك الإنسـان‪ ،‬أي أن مجـال الأخـاق ليـس إلا‬               ‫وفـى مجـال الأخـاق‪ ،‬بَّيـن «ديـكارت» الطـرق التـي تـؤدى‬
‫مركـًاز تتلاقـى فيـه سـائر فـروع المعرفـة البشـرية؛ وُيطبـق‬     ‫بالعقـل إلـى بلـوغ الحقيقـة فـي كل بحـث أخلاقـي‪ ،‬يسـعى‬
‫فيـه العلـم الإنسـاني بـكل مـا حققـه مـن نتائـج‪ .‬ومـن‬           ‫للوصـول إلـى الحكمـة‪ ،‬التـي هـي غايـة الفلسـفة ؛ فقـد أرى‬
‫وجهـة النظـر هـذه‪ ،‬فالأخـاق معرفـة نظريـة شـأنها شـأن‬           ‫أن موضـوع الأخـاق (‪ )43‬تدبيـر أفكارنـا وهدايـة أعمالنـا‬
‫العلـم العقلـي بوجـه عـام‪ ،‬والعلـم ذاتـه لـه طابـع أخلاقـي‪.‬‬     ‫علـى الوجـه الملائـم ‪ ،‬لكـي ننـال السـعادة ‪ ،‬وأمثـل السـبل‬
‫(‪ )45‬بهـذا المعنـى أي ًضـا يتجاوز»اسـبينو از» الحواجـز بيـن‬     ‫وأوثقهـا – لكـي نعمـل أعمـالاً ملائمـة للسـعادة – هـو أن‬
‫الواقـع والمثـل الأعلـى‪ ،‬بيـن مـا هـو فعلـى ومـا هـو مثالـي؛‬
                                                                                                  ‫نعمـل وفقـاً للعقـل ‪.‬‬

‫وآ ارء «ديـكارت» ‪ -‬فـي هـذا الصـدد ‪ -‬متأثـرة بمذهـب حيـث أنكـر الخيـر المطلـق وعالـم الغايـات الـذي ارتكـزت‬

‫الرواقييـن‪ ،‬حيـث فـرق بيـن نوعيـن مـن «الخيـر»‪ :‬الخيـر عليـه الأخـاق المثاليـة بأسـرها‪ .‬والقيـم الأخلاقيـة – عنـده‬

‫الـذي فـي مقدرونـا ونحـن مسـئولون عنـه مسـئولية أخلاقيـة‪ – ،‬ليـس لهـا مـكان فـي المجـرى الفعلـي للطبيعـة‪ ،‬والخيـر‬

‫والخيـر الـذي ليـس فـي مقدورنـا ولسـنا مسـئولين عنـه‪ .‬النـوع والشـر لا وجـود لهمـا إلا فـي أذهاننـا وليـس لهمـا أيـة دلالـة‬

‫ميتافيزيقية‪ ،‬وإنما هما يتعلقان بوجهة نظر البشر فحسب‪.‬‬            ‫الأول هـو الخيـر الحـق لأنـه ارجـع إلينـا ولنـا قـدرة عليـه‪.‬‬
‫يقـول‪« :‬الخيـر والشـر لا يـدلان علـى شـيء إيجابـي فـي‬           ‫أمـا الثانـي فليـس خيـًار علـى الحقيقـة‪ ،‬وإنمـا يكـون الخيـر‬
‫الأشـياء منظـوًار إليهـا فـي ذاتهـا‪ ،‬وإنمـا همـا أحـوال للفكـر‬  ‫الأسـمى لـكل شـخص فـي الإ اردة الثابتـة وفـى الرضـي‬
‫أو موضوعـات فكريـة نكونهـا مـن مقارنـة الأشـياء بعضهـا‬          ‫الناشـئ عنهـا‪ .‬ويـرى «ديـكارت» أي ًضـا أن الخيـر الأسـمى‬
‫ببعـض‪ ..‬وهكـذا يمكـن أن يكـون الشـيء الواحـد فـي الآن‬           ‫هـو معرفـة الحـق‪ ،‬لأن الخيـر والحـق أمـر واحـد‪ .‬يقـول‪:‬‬

           ‫نفسـه خيًاروشـًار‪ ،‬وسـوًّيا إ ازء هـذا وذاك»‪)46(.‬‬    ‫«لمـا كانـت إ اردتنـا لا تميـل إلـى السـعي و ارء شـيء أو‬
‫وتقوم فلسـفة الأخلاق(‪ )47‬عند «كانط» ‪1724( Kant‬‬
‫‪ )1804 :‬علـى العقـل وحـده‪ ،‬مـا دام هـو مصـدر الإلـ ازم‬          ‫الانصـ ارف عنـه‪ ،‬إلا لأن ملكـة الحكـم عندنـا تُصـور لنـا‬
‫الخلقـي‪ ،‬ومـن هنـا نسـب «كانـط» إلـى الأخـاق صفـة‬               ‫ذلـك الشـيء حسـًنا أو قبي ًحـا‪ ،‬فيكفـي أن نحكـم حك ًمـا حسـًنا‬
                                                                ‫لكـي نفعـل فعـاً حسـًنا»‪ )44(.‬معنـى ذلـك أن الإ اردة هـي‬
                                                                ‫التـي توجـه أفكارنـا‪ ،‬فيكـون صنيعهـا حسـنا إذا اهتـدت‬

‫بأفكار واضحة متميزة‪ ،‬ويكون صنيعها سيًئا إذا استرشدت «الضـرورة المطلقـة»‪ ،‬ونـادى بوجـود قوانيـن أوليـة كليـة‬
‫بأفـكار غامضـة مبهمـة‪ .‬والقاعـدة المثلـى لإ اردتنـا – فيمـا وضروريـة فـي مضمـار السـلوك الإنسـاني‪ .‬وفـى كتـاب‬

‫يـرى «ديـكارت» – هـي أن نريـد العالـم علـى نظامـه الـذي «تأسـيس ميتافيزيقـا الأخـاق» يقـدم أوجـه الاختـاف‬

‫و ُجـد عليـه‪ ،‬إذ ليـس لنـا سـيطرة كاملـة إلا علـى أفكارنـا‪ ،‬ومـا بيـن المبـادئ الأخلاقيـة وقوانيـن الطبيعـة‪ ،‬ويذهـب إلـى‬
‫دام الأمـر كذلـك فخليـق بنـا أن نسـعى لمغالبـة رغباتنـا لا أن الاختـاف بينهمـا يكمـن فـي إحساسـنا الذاتـي بالإلـ ازم‬

                                                                ‫‪54‬‬
   49   50   51   52   53   54   55   56   57   58   59