Page 51 - تنوير 4-8
P. 51

‫لجنة الفلسفة وعلم الإجتماع والأنثروبولوجيا ‪ -‬المجلس الأعلى للثقافة‬

‫وعلـى الرغـم مـن أن الأخـاق كانـت عنـده أخلاًقـا غائيـة –‬                                    ‫والثقافـي الـذي يعيـش فيـه‪.‬‬
‫شـأنها شـأن كل الأخـاق اليونانيـة – فـإن بـوادر الأخـاق‬
‫المطلقـة تظهـر لديـه مـن آن لآخـر‪ )22(.‬ففـي مطلـع الكتـاب‬         ‫وإذا رجعنـا إلـى تاريـخ الفكـر الفلسـفي سـنجد أن مفهـوم‬
                                                                  ‫«الخير»هـو أحـد المفاهيـم الأساسـية التـي عنـى بهـا‬
‫الثانـي مـن الجمهوريـة نجـده يصنـف الأشـياء الخيـرة إلـى‬          ‫الفلاسـفة منـذ أن أطلـق «سـق ارط(‪: 470( Socrates )18‬‬
‫أشـياء تُطلـب لذاتهـا بغـض النظـر عـن نتائجهـا‪ ،‬وأخـرى‬            ‫‪ )399B.C‬شـعاره المعـروف والـذي يعبـر عـن كل فلسـفته‬
‫تُطلـب لذاتهـا ولنتائجهـا م ًعـا‪ ،‬وثالثـة تُطلـب لنتائجهـا فقـط‪.‬‬  ‫«اعرف نفسك بنفسك»؛ هذا الشعار لا يكشف عن نظرية‬
‫يقـول‪« :‬كيـف تُصنـف الأشـياء التـي تسـميها خيـرة؟ أليـس‬           ‫خاصـة فـي طبيعـة النفـس ومصيرهـا‪ ،‬بقـدر مـا يكشـف عـن‬
‫منهـا مـا يرغـب فيـه لذاتـه‪ ،‬بغـض النظـر عـن نتائجـه‪،‬‬             ‫مضمـون أخلاقـي مسـتمد ممـا يترتـب علـى هـذه المعرفـة‬
                                                                  ‫بالنفـس مـن توجيـه معيـن لحيـاة الإنسـان وسـلوكه‪ .‬فمعرفـة‬
‫مثـل الملـذات والمتـع البريئـة‪ ،‬التـي تطـرب لهـا فـي وقتهـا‪،‬‬      ‫النفـس عنـده هـي معرفـة «الخيـر» وتحقيـق الفضيلـة؛‬
‫ولا تنجـم عنهـا أيـة نتائـج؟‪ ...‬ألا تـرى بعـد ذلـك أن هنـاك‬       ‫لأن مـن يعـرف نفسـه يعـرف مـا يناسـبها‪ ،‬أي يعـرف‬
‫فئـة أخـرى مـن الأشـياء التـي نعدهـا خيـًار‪ ،‬مثـل المعرفـة‬        ‫الخيـر الخـاص بهـا‪ .‬ولمـا كان الخيـر الأسـمى أو الغايـة‬
‫والإبصـار والصحـة‪ ،‬لا نرغـب فيهـا لذاتهـا فحسـب‪ ،‬بـل‬              ‫القصـوى التـي ينبغـي أن يتجـه إليهـا الإنسـان فـي كل حياتـه‬
                                                                  ‫هـي «السـعادة»‪ ،‬فعلـى الحكيـم أو الفيلسـوف أن يسـعى‬
‫لمـا تسـتتبعه مـن نتائـج أي ًضـا؟ أليـس هنـاك فئـة ثالثـة مثـل‬    ‫إلـى بلوغهـا بالعقـل والتخطيـط السـليم‪ .‬و»السـعادة» التـي‬
‫الرياضـة البدنيـة‪ ،‬ورعايـة المرضـى‪ ،‬وممارسـة الطـب‪،‬‬               ‫يقصدهـا «سـق ارط» والتـي يتحقـق بهـا «الخيـر الأسـمى»‬
‫وفنـون مربحـة أخـرى – كلهـا نافعـة وإن تكـن تجلـب الألـم‬          ‫هـي قناعـة النفـس وطهارتهـا‪ ،‬لذلـك فقـد ترتـب علـى مبـدأ‬
                                                                  ‫«اعـرف نفسـك» نظريتـه الأخلاقيـة التـي تتلخـص فـي أن‬
‫– مـن المحـال أن نختارهـا لذاتهـا‪ ،‬وإنمـا لمـا ينشـأ عنهـا مـن‬    ‫«الفضيلـة علـم والرذيلـة جهـل»‪ )19(،‬فجهـل الإنسـان بالخيـر‬
‫نتائـج فحسـب؟»(‪ )23‬أرى «أفلاطـون» أن مـا هـو خيـر»‬                ‫هـو وحـده مصـدر الشـقاء والشـر‪ ،‬وإذا كان الخيـر يرتبـط‬
                                                                  ‫بالسـعادة فـإن الشـر يتحـد بالشـقاء؛ ولذلـك يسـتحيل علـى‬
‫ليـس علـة كل شـيء‪ ،‬وإنمـا هـو علـة الأشـياء الخيـرة لا‬            ‫الإنسـان أن «يذهـب إلـى مـا هـو شـر بإ اردتـه ولا إلـى مـا‬

‫الشـريرة‪ ،‬ليـس علـة معظـم مـا يحـدث للنـاس‪ ،‬إذ إن الخيـر‬

‫فـي حيـاة البشـر قليـل والشـر فيهـا كثيـر‪ .‬و»الخيـر» ليـس‬
‫لـه مـن مصـدر سـوى « الإلـه»‪ ،‬أمـا الشـر فلنبحـث لـه عـن‬

                                   ‫مصـدر غيـره»‪)24(.‬‬

‫ولقـد كان مـن الطبيعـي أن يختلـف الشـ ارح فـي تجسـيد‬              ‫يعتقد أنه شـر‪ ،‬وليس من طبيعته – بحسـب ما يبدو – أن‬

‫ماهيـة ذلـك «الخيـر» هـل هـو القيمـة العليـا فحسـب‪ ،‬أم أنـه‬                   ‫يختـار الشـر بـدلاً ممـا يعتقـد أنـه خيـر»‪)20(.‬‬

‫ومـن المعتـرف بـه أن «أفلاطـون» ‪ :427( Plato‬المبـدأ الميتافيزيقـي الأعلـى؟ وهـل «الخيـر» خالـق بالمعنـى‬
‫‪ )347B.C‬كان أعظـم المدافعيـن – فـي العالـم القديـم الحرفـي‪ ،‬أم بالمعنـى المجـازي؟ وهـل يمكـن المضـي إلـى‬
‫– عـن فكـرة موضوعيـة القيـم‪ ،‬ولعـل الأمـر الـذي حـال النهايـة فـي تشـبيه علاقـة «الخيـر» بالكـون بعلاقـة الشـمس‬
‫بينـه وبيـن وضـع مذهـب أخلاقـي مطلـق بالمعنـى الكامـل بعالمنـا الأرضـي؟ (وهـو التشـبيه المشـهور فـي أسـطورة‬
‫الكهـف)‪ .‬وبالرجـوع إلـى أوصـاف «الخيـر»‪ ،‬فـي الكتـاب‬
‫السـادس مـن «الجمهوريـة‪ )25(،‬سـنجد أن «أفلاطـون» جعـل‬             ‫لهـذه الكلمـة‪ ،‬هـو أنـه كان متأثـًار بذلـك الاتجـاه العـام فـي‬
                                                                  ‫الأخـاق اليونانيـة إلـى تأكيـد فكـرة «السـعادة»(‪ )21‬بوصفهـا‬
‫غايـة لسـلوك الإنسـان‪ ،‬وإلـى تجاهـل فكـرة «الواجـب» منـه مبـدأ كونًّيـا‪ ،‬إلـى جانـب كونـه قيمـة؛ ونظـر إليـه علـى‬
‫فحسـب‪.‬‬  ‫الأخـاق‬  ‫لا‬  ‫والعلـم‪،‬‬  ‫المعرفـة‬  ‫موضوعـات‬  ‫أرفـع‬  ‫أنـه‬
                                                                     ‫البشـر‪.‬‬  ‫أفعـال‬  ‫إليـه‬  ‫تنجـذب‬  ‫أن‬  ‫يمكـن‬  ‫آخـر‬  ‫قطًبـا‬  ‫بوصفهـا‬

                                                                  ‫‪51‬‬
   46   47   48   49   50   51   52   53   54   55   56