Page 50 - تنوير 4-8
        P. 50
     لجنة الفلسفة وعلم الإجتماع والأنثروبولوجيا  -المجلس الأعلى للثقافة
هـذه الأمـور يتخـذ منهـا صاحـب النظـرة الذاتيـة شـواهد علـى أنهـا تحمـل الخاصيتيـن م ًعـا .فالجوهـرة لا تكمـن قيمتهـا فـي
أن القيمـة لا توجـد إلا فـي أذهاننـا ،فالحكـم التقويمـي ليـس ذاتهـا ،إذ لا بـد أن تكـون الجوهـرة قيمـة بالنسـبة لشـخص
مـا ،غيـر أن خصائصهـا مـن ناحيـة أخـرى هـي خصائـص               إيضا ًحـا لصفـات كامنـة فـي الأشـياء – تجعلهـا خيـرة أو
طبيعيـة فيهـا ،فنحـن لـم نخلقهـا أعنـي أننـا لسـنا نحـن الذيـن  مرغوًبـا فيهـا لذاتهـا ،وإنمـا هـو مجـرد تعبيـر عـن تفضيـل.
جعلناهـا لامعـة ذات بريـق .وقـل مثـل ذلـك بالنسـبة للسـلوك      وهـذا التفضيـل هـو دائ ًمـا تفضيـل شـخصي ،هـو إعـان
البشـرى ،فنحـن نختـار سـلوًكا معيًنـا يتصـف بصفـات              عمـا أحبـه أنـا ذاتـي وأجـده خيـًار ،وعمـا ُيرضـي رغبتـي أو
خاصـة ونصفـه ب»الأمانـة» أو «الصـدق» أو «الوفـاء»،              مصلحتـي الخاصـة؛ بـل إن أحكامنـا تتغيـر دائ ًمـا حتـى
أو بأنـه «خيـر» بصفـة عامـة .لكـن هـذه الخصائـص ذاتهـا          فـي مجـال التفضيـل الشـخصي هـذا .فـا حاجـة – مثـاً
– بالمـرء إلـى أن يكـون متشـائ ًما سـاخًار لكـي يقـول إن كل هـي التـي تتحكـم فـي عمليـة الاختيـار ،فـإذا كان الاختيـار
أحكامنـا التقويميـة لا تعبـر فقـط عـن تفضيـل شـخصي ،يمثـل العامـل الذاتـي ،فـإن خصائـص العقـل نفسـه تمثـل
العامـل الموضوعـي ومنهمـا م ًعـا يكـون السـلوك الأخلاقـي.       وإنمـا تمثـل تفضيـاً مرهوًنـا باللحظـة وحدهـا ،ومعر ًضـا
                                                                للتغيـر دون سـابق إنـذار .ومـن هنـا ،فـإن أي خيـر هـو
                                لمحات تاريخية                   بالضـرورة تجربـة لفـرد مـا ،وعندمـا تتفـق مجموعـة مـن
                                                                الأشـخاص علـى قيمـة أيـة تجربـة ،فلـن تكـون لدينـا إلا
الدعـوة الأخلاقيـة دعـوة قديمـة قـدم المجتمعـات                 مجموعـة مـن التجـارب الفرديـة التـي ُيحكـم عليهـا بأنهـا
البشـرية ،فمـا اجتمعـت طائفـة مـن النـاس فـي أي مـكان
علـى ظهـر الأرض وفـى أي عصـر مـن عصـور التاريـخ،                                                         «خي ـر»)14(.
إلا وقـد نجـم – عـن هـذا التجمـع – قواعـد للتمييـز بيـن
«الخيـر» و«الشـر» ،و«الحـق» و«الباطـل» ،و«الكمـال»              وهكـذا ،فـإن صاحـب النظـرة الذاتيـة لا ُيعـِّرف القيمـة
و «النقصـان» ...وغيـر ذلـك مـن المعاييـر التـي يلتـزم بهـا      بأنهـا كامنـة فـي الأشـياء أو المواقـف ،وإنمـا ُيعِّرفهـا بأنهـا
الإنسـان فـي سـلوكه ليحيـا حيـاة سـعيدة؛ ويحقـق أكبـر قـدر      «كل ما يشبع رغبة أو حاجة أو مصلحة» .ويعبر «جون
مـن الطمأنينـة والرضـى والسـعادة .ولا شـك أن الإنسـان هـو       ستيوارت مل»  )1806:1873( J.S.Millعن هذا ال أري
الكائـن الأخلاقـي الـذي يحمـل «أمانـة القيـم» ،بمعنـى أن        بتأكيـده أن السـؤال عـن «الخيـر» هـو سـؤال بخصـوص
مـا ُيكـِّون ماهيـة وجـوده – مـن الناحيـة الأخلاقيـة – هـو      الأشـياء المرغوبـة ،ويضيـف أن الدليـل الوحيـد الممكـن
مـا لديـه مـن قـدرة علـى حمـل القيـم الأخلاقيـة .وقـد شـغلت     علـى أن الشـيء خيـر هـو أن النـاس بالفعـل ترغـب فيـه،
مسـألة «القيمـة» مسـاحة عريضـة مـن بحـث المفكريـن               والسـعادة هـي الشـيء الوحيـد المرغـوب فيـه لذاتـه بصـرف
والمهتميـن بالجوانـب الإنسـانية والاجتماعيـة عبـر التاريـخ،
                                                                  النظـر عمـا ُيحتمـل أن ينجـم عنـه مـن نتائـج وآثـار)15(.
وقـد أرى بعـض الفلاسـفة قصـور ال أرييـن السـابقين حـول فهـي انعـكاس للأسـلوب الـذي يفكـر بـه الأفـ ارد فـي ثقافـة
معينـة ،وفـى فتـرة زمنيـة معينـة؛ كمـا أنهـا تمثـل نظا ًمـا     أحـكام القيمـة ،ذلـك لأنهـم وضعـوا المشـكلة وض ًعـا خاطًئـا
معقـًدا يتضمـن أحكا ًمـا تقويميـة ايجابيـة أو سـلبية – مقبولـة  حيـن تسـاءلوا :هـل القيـم موضوعيـة أم ذاتيـة؟ ثـم افترضـوا
أو مرفوضـة – نحـو الأشـياء أو الأفعـال أو حتـى نحـو             أنهـا لا بـد أن تكـون إمـا ذاتيـة خالصـة أو موضوعيـة
خالصـة )16(.إذ إن هنـاك وجهـة نظـر أوسـع وأرحـب تضـم الأشـخاص )17(.ومـن ثـَّم تعكـس «القيـم» أهـداف الإنسـان
ال أرييـن م ًعـا ،فـا تقتصـر خيريـة الأفعـال مثـا علـى الأفعال واهتماماتـه الذاتيـة ،كمـا تعكـس حاجـات النظـام الاجتماعـي
                                                        وحدهـا ،ولا تجعلهـا قاصـرة علـى الإنسـان وحـده؛ فـا شـك
                                          50
     	
