Page 49 - تنوير 4-8
P. 49

‫لجنة الفلسفة وعلم الإجتماع والأنثروبولوجيا ‪ -‬المجلس الأعلى للثقافة‬

‫ويمكن أن نجد نموذ ًجا للتصور الموضوعي للخير لدى‬                     ‫تسلسـلي واحد وشـامل‪ ،‬حيث يشـغل كل موضوع فيه مكاًنا‬
‫الفيلسـوف الأمريكـي «جوزيـا رويـس» ‪1855( Royce‬‬                      ‫متميًاز فريًدا تحدده علاقاته تجاه المجموع‪ ،‬فمعظم الأشـياء‬
‫‪ )1916 :‬فـي فلسـفته عـن «الـولاء» ‪Philosophy of‬‬                     ‫التـي نسـميها خيـًار لا تكـون لهـا قيمـة إلا مـن حيـث هـي‬
‫‪ ،Loyalty‬حيـث أعطـى لـكل مظهـر مـن مظاهـر الـولاء‬                   ‫وسـيلة لخيـر أشـمل منهـا‪ ،‬وهـذا بـدوره يبيـن أنـه ليـس إلا‬
‫وجـوًدا موضوعًّيـا خيـًار‪ )11(.‬وقـد أرى أن الـولاء فـي ذاتـه‬        ‫وسـيلة لخير آخر أبعد مدى؛ وهكذا يكون لدينا سـلم متدرج‬
‫«خيـر أسـمى»‪ ،‬بغـض النظـر عـن القضيـة التـي تتخذهـا‬
‫موض ًعـا لولائـك؛ فينبغـي أن نحـدد مـا يكـون جديـًار بـولاء‬                                 ‫حتـى نصـل للخيـر الأسـمى‪)9(.‬‬
‫الإنسـان‪ ،‬والشـيء الـذي يسـتحق مـن الإنسـان ولاءه ينبغـي‬
‫أن يكـون شـيًئا يحتفـظ لـه بذاتيتـه المسـتقلة‪.،‬يقول‪« :‬إذا‬           ‫إذن‪« ،‬الخيـر» أسـاس علـم الأخـاق‪ ،‬لكـن أول خـاف‬
‫وجـدت قضيـة معينـة‪ ،‬وحـازت إعجابـي‪ ،‬وجذبتنـي إليهـا‪،‬‬                ‫يثـار حـول مفهـوم «الخيـر» هـو الخـاف المتعلـق بمركـز‬
‫فوهبـت لهـا نفسـي وخدمتهـا‪ ،‬فإنـي بذلـك أكـون قـد حققـت‬             ‫«الخيـر» فـي الكـون‪ ،‬أي الخـاف المتعلـق بطبيعـة القيـم‬
‫لنفسـي – إذا مـا اكتمـل ولائـي – الخيـر الأقصـى‪ ....‬ولا‬             ‫بصفـة عامـة‪ .‬فقـد تسـاءل الفلاسـفة‪ :‬هـل للخيـر وجـود‬
‫يعنـي ولائـي خيـري فقـط وإنمـا خيـر الآخريـن أي ًضـا‪ ،‬فأنـا لا‬      ‫موضوعـي مطلـق؟ وهـل هنـاك «خيـر» بالمعنـى العـام‪ ،‬أم‬
‫أحصـل علـى الخيـر‪ ،‬وإنمـا أمنحـه للآخريـن‪ ....‬وهكـذا لا‬             ‫هـو دائ ًمـا نسـبي تب ًعـا لرضـا فـرد معيـن أو تفضيلـه؟ هـل‬
‫يقتصـر الخيـر علـى الفـرد فحسـب‪ ،‬وإنمـا يشـمل الآخريـن‬              ‫هنـاك أحـكام تقويميـة شـاملة تسـري علـى كل البشـر فـي‬
‫طالمـا يوجـد نـوع الـولاء للـولاء‪ ،‬أي يوجـد نـوع مـن التدعيـم‬       ‫كل مـكان؟ وهـل هنـاك شـيء ينعقـد إجمـاع النـاس علـى‬
‫لـولاء الآخريـن‪ .‬إذن لا تَُعـُّد القضيـة خيـرة‪ ،‬إلا إذا كانـت‬       ‫وصفـه ب «الخيـر»‪ ،‬بغـض النظـر عـن زمانهـم أو مكانهـم‬
‫أسا ًسـا عبـارة عـن ولاء للـولاء‪ ،‬وتُوصـف بأنهـا قضيـة شـريرة‬       ‫أو جنسـهم أو حضارتهـم؟ أم أن لـكل شـخص – فـي نهايـة‬
                                                                    ‫الأمـر – نظا ًمـا فردًّيـا مـن القيـم؟ بعبـارة أخـرى‪ :‬هـل القيـم‬
                 ‫طالمـا أنهـا تحطـم ولاء الآخريـن»‪)12(.‬‬             ‫خاصيـة تنتمـي إلـى الأشـياء ذاتهـا؟ أم أننـا نحـن الذيـن‬
                                                                    ‫نضفـى هـذه القيـم علـى الأشـياء؟ أي‪ :‬هـل هـي موضوعيـة‬

‫وقـد أكـد أنصـار النظريـة الذاتيـة فـي القيمـة وجـود‬                ‫أم ذاتيـة؟ مطلقـة أم نسـبية؟(‪)10‬‬

‫ويـرى أنصـار النظريـة الموضوعيـة للقيمـة أن «الخيـر» تبايـن فـي الأحـكام التقويميـة‪ ،‬وأن هـذا التبايـن يـزداد عمًقـا‬
‫كامـن فـي طبيعـة الأشـياء ذاتهـا‪ ،‬لا يختلـف مـن فـرد وفًقـا لاختـاف الأشـخاص والعصـور؛ ذلـك لأن كل قيمـة‬
‫لآخـر‪ ،‬ولا مـن عصـر إلـى عصـر‪ ،‬ولا مـن مـكان إلـى تبـدو صـادرة – مـن وجهـة النظـر النفسـية – عـن الشـعور‬
‫مـكان؛ لكـن الـذي يختلـف فحسـب هـم الأفـ ارد والجماعـات‪ .‬بالرضـا أو الإشـباع ‪ ،Satisfaction‬فنحـن نصـف أي‬
‫فقـد تمنعهـم البيئـة أو التربيـة أو الظـروف المحيطـة بهـم شـيء ُيرضـي أو ُيشـبع حاجـة مـن حاجاتنـا أو يسـاعد علـى‬
‫عـن إد ارك هـذه الخصائـص التـي نسـميها بالقيـم‪ ،‬بحيـث تحقيـق مصلحـة لنـا‪ ،‬بأنـه «خيـر» أو «ّقيـم» أو «مرغـوب»‬
‫فيـه‪ .‬وأعلـى الأشـياء قيمـة هـي تلـك التـي تشـبع حاجاتنـا‬
                                                                    ‫تجـد مجتم ًعـا مـن المجتمعـات أو فـرًدا مـن الأفـ ارد لا يـرى‬
‫علـى أفضـل نحـو‪ ،‬أو تُرضـي حاجـة مـن أقـوى حاجاتنـا‪.‬‬                ‫السـلوك الأميـن أو الصـادق «خيـًار» فـي ذاتـه؛ وتلـك‬
‫مـن هـذا المنطلـق‪ ،‬فـإن ميولنـا ورغباتنـا تشـبه لوحـة حساسـة‬        ‫الحـالات إن ُوجـدت فهـي لا تدحـض الحقيقـة التـي تقـول‪:‬‬
                                                                    ‫إن «الخيريـة» كامنـة فـي طبيعـة السـلوك الأخلاقـي نفسـه‪.‬‬
‫تكشـف لنـا عـن القيـم التـي لا وجـود لهـا مطلًقـا خـارج هـذه‬

‫وهكـذا يكـون الحكـم التقويمـي فـي أساسـه وصًفـا لطبيعـة اللوحـة‪ )13(.‬ويترتـب علـى ذلـك أنـه كلمـا فقـد الشـيء أو‬
‫الموقـف قدرتـه علـى إرضائنـا‪ ،‬انعدمـت قيمتـه أي ًضـا‪ .‬كل‬
                                                                    ‫الأشـياء‪ ،‬أي للواقـع ذاتـه‪.‬‬

                                                                ‫‪49‬‬
   44   45   46   47   48   49   50   51   52   53   54