Page 87 - merit mag 36- dec 2021
P. 87
85 إبداع ومبدعون
قصــة
-قف ،ولا تنطق كما أمرتك. لأن الصورة الآن صارت مقلوبة ،أسمع هم ًسا
أنا الابن المُدلل ،لم يصفعني أبي ،أو أمي ،مرة يتردد في نفسي :انتهت دنياه ،وانقطع عمله ،وآن
واحدة على وجهي ،أو قفاي ،حتى في طفولتي، وقت الجزاء ،فأتذكر مصدر مخاوفي :نعم إنه ميت،
أُهان الآن ،وأسكت ..أي مذلة؟! أحسست بقهر لا بينما أنا بين أربعة حوائط وناس ُكثر ،ورغم ذلك لا
يوصف ،فطفرت في عيني دموع ،وأظلم الشارع
أستطيع الفكاك.
فجأة ،فابتلع بيوته ،وناسه. دون أن أحس ،انتهت الصلاة .أمسك يدي ،ونحن
نعبر بين ناس منشغلين بما في أيديهم .يتفرقون
()4 من قلب دائرة إلى أطرافها ،يعبرون جدر البيوت
وجدتني في المرة الرابعة أقف متسم ًرا أمام باب بيت كأطياف ،أو دخان ،حتى خلا شارعنا إلى بضع
قديم في نفس الشارع الذي كنا فيه في المرة الفائتة. أناس متسكعين ،يتطوحون في شارع جانبي،
لم تتغير المعالم كثي ًرا ،وإن تبدل الوقت .نور لمبات
نيون قوي كان يقتحم عيني ،أبربش متجاو ًزا إياه، رائحته رائحة شارع لا تمر به الشمس في جولتها
ثم يهدأ ويروح .بعد وقت يعود الضوء .كأنه منارة النهارية .أظنه ليس شار ًعا من شوارع بلدتنا.
تضيء للصيادين ،والربان ،أو كاش ًفا ضوئيًّا د َّوا ًرا أو ربما شارع جديد ،لكن مبانيه قديمة .بيوت
في سجن ،موضو ًعا على برج عا ٍل ،أقصى الشارع
من الحجر الأبيض تسري الرطوبة في جدرانها،
الذي نحن فيه .في الداخل كان «أحمد عثمان» ويتقشر ملاطها في أكثر من موضع .بيوت هذا
يلاعب امرأة ،ويقتحمها .غنجها يشعل قشرة مخي. الشارع شبابيكها عالية ،مسقوفة بالأخشاب ،أو
عشش من الأخشاب والصفيح .عبرنا م ًعا بوابة
أسمع بعض كلمات الغزل المحموم التي يصبها في واطئة ،اضطررنا معها أن نخفض رأسينا ،واندفعنا
شفتيها ،وأذنيها وهو يعضعض فيهما .رأيت ثقبًا إلى مقدمة بار .دفع إل َّي بزجاجة من الخمر ،بسعادة
بالشباك ،فاقتربت خفي ًفا .دسست عيني .المشهد حدقت إليها ،ثم رفعتها إلى فمي ،وأخذت أتجرعها
بلذة .لم أعهد طع ًما لذي ًذا دون لذعة قوية كهذا،
كان ضا ًجا بالحركة ،والجنون .نور جسديهما
المشتبك أشعل حواسي الخامدة ،لأجده أمامي ممتنًا قلت:
يشدني من ياقتي .خجلت من نفسي .أحسست -أعطني زجاجة ثانية.
بالضعة ،والضآلة ،وأنا أقف أمامه صاغ ًرا ،ومبت ًّل بحسم حدق في وجهي:
-ما زلت تتطلع إلى نصيب غيرك .كفاك!
بتصنتي .قلت ضاح ًكا لأهرب من الورطة: ثم أوقفني أمام دار من الطوب اللبن في نفس
-ألن أدخل أنا الآخر ،وتقف في انتظاري؟!
الشارع.
-هل أدعك تدخل لحبيبتي ،يا بغل؟! -عليك بالثبات أما الباب حتى أخرج.
كانت الإهانة فوق ما أحتمل .لقد استغلني ميت ولج إلى داخلها ،فتك بي الفضول .طعم الخمر
أسوأ استغلال لم أكن لأفعله ،وأنا في كامل وعيي برأسي كان مده ًشا ،تغيم الأجواء ،وتسبح الصور
كأنها فوق أمواج ،لكن إحساسي بنشوتها بدأت
وسيطرتي على نفسي .سقاني خم ًرا طرو ًبا، تزول ،وكنت أطمع في واحدة أخرى تجدد نشوتي.
فانحلت إرادتي ،وتحللت شخصيتي .حتى الإهانة ه َّدأ ُت نفسي« :أمسك العصا من المنتصف ،وأطل في
نفسها تلاشت ،وصرت أقف صاغ ًرا أمامه منتظ ًرا
مدة السؤال حتى ُيغير خططه».
أوامره .مد يده بقطعة حلوى: -ل َم تطلب مني الوقوف هنا؟! هل تنوي سرقة
-حبيبتي منحتك هذه جزا ًء لوقفتك الشجاعة.
أخذتها ممنيًا نفسي بأنه هادئ الآن ،ويمكن أن البيت ومن فيه ..هه؟!
تلقيت صفعة على قفاي ،وضحكة تجلجل من فمه:
أفوز من ورائه بلذة ،فقلت:
-وما تعطيني أنت جزا ًء لوقفتي .ألن تمنحني -ما زلت تتغابى كالمعتاد.
ثم بنظرة شرسة:
زجاجة أخرى من الخمر إياها؟