Page 118 - Pp
P. 118

‫العـدد ‪35‬‬   ‫‪116‬‬

                                                 ‫نوفمبر ‪٢٠٢1‬‬

  ‫بغصة وهي تتأمل الصورة التي وصلتها عبر‬          ‫من كيانها ووجدانها‪ .‬وتقرر أخي ًرا تأليف كتاب‬
    ‫البريد الإلكتروني‪ ،‬ترى شاهدة قبر عنايات‬         ‫على هذا النحو الذي انتهى إلينا‪ ،‬وما فيه من‬
    ‫مشروخة ملقاة على الأرض‪ ،‬فتتساءل‪« :‬هل‬                        ‫تداخل وجماليات وجهد واضح‪.‬‬

 ‫يجب أن تكون واقعة هدم المقبرة نهاية رحلتي‬                ‫الاستهلال والختام‬
    ‫مع عنايات؟»‪ ،‬ودون أن ترد على تساؤلاتها‬
    ‫العميقة تنتقل إلى مشهد غني بالإيحاء يمنح‬             ‫يبدأ الكتاب بفقرتين‪ :‬الأولى يغلب عليها‬
                                                    ‫الأسلوب السردي‪ ،‬ونستمع فيها إلى صوت‬
 ‫النهاية أف ًقا مفتو ًحا‪ ،‬مشهد طفلة صغيرة كانت‬      ‫الساردة تحدثنا عن شخصية اسمها (بولا)‬
     ‫بجانبها في صالة الانتظار‪ ،‬تلعب بنظارتها‬     ‫هي صديقة عنايات‪ ،‬في اليوم الذي انتحرت فيه‬
               ‫الطبية وكأنها طائرة‪( .‬ص‪)234‬‬        ‫صديقة العمر «لم تذهب بولا إلى الجنازة‪ ،‬ولا‬
                                                  ‫تعرف أين المقبرة‪ .‬أعادت القصة التي سمعتها‬
  ‫تشعر الساردة وهي تتابع الحوار بين الطفلة‬         ‫منها من قبل بنفس الترتيب والتفاصيل‪ :‬إنها‬
  ‫وأمها أن خيال هذه الصغيرة أقوى من منطق‬            ‫بعد ذلك التليفون المشؤوم‪ ،‬ذهبت إلى ميدان‬

       ‫أمها‪ .‬وهذا الإحساس يعيدها الى عنايات‪:‬‬          ‫أسترا‪ ،‬إلى البيت في الدقي‪ ،‬قفزت السلالم‬
      ‫«عنايات أي ًضا كاتبة فريدة‪ ،‬وخيالها أكبر‬          ‫إلى شقة الطابق الثاني‪ ،‬كانوا قد كسروا‬
    ‫من تتبعي لأثرها‪ .‬عندما وعدتها أن أزورها‬
   ‫كلما عد ُت إلى مصر لأن المقابر لا تتحرك من‬     ‫بالفعل باب الغرفة بحثًا عنها‪ .‬رأتها ممددة في‬
      ‫أماكنها‪ ،‬كن ُت أكلمها عن نفسي؛ ستكونين‬      ‫سريرها‪ ،‬جميلة كأنها في نوم هانئ‪ ،‬واللحاف‬
   ‫دو ًما جز ًءا من رحلتي‪ ،‬خطوة على طرق هذه‬
  ‫المدينة التي أحببناها وكرهناها‪ ،‬وللغربة التي‬                   ‫مفرود فوقها بإتقان»‪( .‬ص‪)5‬‬
  ‫عشناها في لحظتين مختلفتين‪ ،‬ولمعنى الكتابة‬       ‫وفي الفقرة الثانية تتحدث الساردة عن نفسها‬
     ‫التي أعطتنا وأخذت منا»‪( .‬ص‪ )235‬تظهر‬            ‫لحظة الشروع في البحث «توكلت على الله في‬
  ‫هنا بوضوح هيمنة الخطاب السردي الممزوج‬
      ‫بشعرية مؤثرة وغوص في أعماق النفس‪.‬‬                ‫الثامنة صباح الخميس ‪ 19‬فبراير ‪،2015‬‬
 ‫ويظهر أي ًضا الهم الوجودي والقلق والمشاركة‬          ‫وأخذت تاكسي إلى البساتين‪ .‬ليس معي إلا‬
                                                     ‫العنوان المكتوب في جريدة الأهرام في يناير‬
                                     ‫الوجدانية‪.‬‬
‫وفي الأسطر الأخيرة إيجاز وتعليل جميل‪« :‬قل ُت‬                                     ‫‪( .1967‬ص‪)5‬‬
                                                      ‫الفصل (‪ )25‬هو الفصل الأخير في الكتاب‬
   ‫لنفسي‪ ،‬مثلما تركت عنايات المدرسة الألمانية‬      ‫ويمثل الخاتمة‪ ،‬وفيه معلومة جديدة صادمة‬
  ‫وبيت الزوجية وسعد وابنها وحياتها نفسها‪،‬‬              ‫من مقبرة عنايات التي بدأت تعبث بها يد‬
‫تركت المقبرة خلفها‪ .‬هي المطرودة من الأرشيف‬         ‫التخريب‪ ،‬وكما لو كانت باقية على قيد الحياة‬
  ‫الرسمي‪ ،‬والمنزوية في غرفة جانبية في مقبرة‬         ‫ما زالت تتعرض للأذى‪ ،‬ولكن ثمة من يقف‬
   ‫العائلة‪ ،‬تعرف ماذا تريد‪ .‬لقد أراد ْت أن تظل‬         ‫إلى جانبها ويدافع عنها‪ ،‬قسم من أقاربها‬
‫حرة وخفيفة‪ ،‬بلا أرشيف شخص ّي ولا شجرة‬               ‫والساردة التي تطورت علاقتها بها‪ ،‬وتشعر‬
                                                   ‫أنها علاقة لا يمكن تنحيتها جانبًا‪« :‬تص ّور ُت‬
     ‫عائلة ولا شاهد قبر‪ .‬أنا مشي ُت في اتجاهها‬      ‫أن قصتي مع عنايات انتهت‪ ،‬عنايات لم ت ُعد‬
‫طوي ًل‪ .‬هي من ستقرر من ستمشي تجاههم في‬             ‫ضحيّة‪ .‬الضحيّة لا تكتب‪ .‬الناجي من الكارثة‬
 ‫المستقبل»‪( .‬ص‪ )235‬خيال الساردة يعلل على‬
                                                                     ‫هو من يكتبها»‪( .‬ص‪)233‬‬
  ‫نحو مختلف‪ ،‬إنها الحرية التي تريدها عنايات‬       ‫في هذا الفصل الأخير تظهر الساردة في مطار‬
     ‫وليست تهمي ًشا كما يبدو في الظاهر‪ .‬ومن‬       ‫تورنتو يوم ‪ 23‬أبريل ‪ 2019‬بعد انجاز مهمة‬

    ‫الجميل أن تختم الكتاب بفصل مكثف زاخر‬             ‫الكتابة عن عنايات‪ ،‬تنتظر الطائرة‪ ،‬وتشعر‬
  ‫بالإيحاء والخيال وهيمنة الخطاب الأدبي كما‬

                      ‫بدأت في فقرة الاستهلال‪.‬‬
   113   114   115   116   117   118   119   120   121   122   123