Page 43 - Pp
P. 43
تنتهي مركزية ال ُمر ِسل وهامشية الذي لا تفصح الكاتبة ولا تخبر عنه حتى تتسع
المستقبل في عصر ما بعد دلالاته الخطابية لتشمل القارئ نفسه .تمثل كتابة
الحداثة ،يتح ّول الخطاب من الرسالة حالة من الانعتاق للذات المهمومة بعدد
من القيود المفروضة من الخارج ،وأولها ،وهو ما
خطاب أحادي ينتجه ال ُمر ِسل
ويتلقاه المستقبل ،إلى كتابة يظهر في القسم الأول «الرسائل ..لماذا؟» ،فتبدو
الكاتبة في حال من الوحدة لأسباب عدة ،وتحاول
مشتركة بين ال ُمر ِسل والمستقبل.
كما يتب ّدى صو ٌت حواري عندما أن تقوى عليها عبر الكتابة وطهي الطعام ،بل
تقوم بخلق عالم موا ٍز بين الحالة الشعورية
تستحضر الكاتبة عبر رسائلها والواقع الح ّسي للطهي ،تقول« :تذكرني بأن
عليَّ صب الأرز باللبن في الأطباق وتزيينه ،ثم
بعض قصص الجدات وأقوالهن أتفرغ للحس قاع الحلة ،فالنار تذهب ما التصق
في القاع وتستف ّزك لفك التصاقه به ،شأن ما
لتصبح صو ًتا مواز ًيا مؤن ًسا لها نمر به من خيبات نص ُّر على فك التصاقها لتلطخ
أصابعنا الدبقة» .فتوازي بين حالة الضغوطات
عصر ما بعد الحداثة ،يتح ّول الخطاب من خطاب الشعورية التي يبدو فيها الإنسان المعاصر كمن
أحادي ينتجه المُر ِسل ويتلقاه المستقبل ،إلى كتابة ُيطهى على النار ،وواقع المطبخ الح ّسي ،من حيث
مشتركة بين المُر ِسل والمستقبل .كما يتب ّدى صو ٌت التصاق الطعام بالقدور بسبب تلك النار .وهنا
حواري عندما تستحضر الكاتبة عبر رسائلها بعض يمكن للمتل ّقي أن يستشف انفتاح دلالة المطبخ؛ فهو
قصص الجدات وأقوالهن لتصبح صو ًتا مواز ًيا ليس مكان إعداد الطعام فحسب ،بل يبدو كمعادل
مؤن ًسا لها ،تقول «اعتادت جداتنا صنع الجوارب موضوعي للحياة نفسها ،التي يكتسب فيها الإنسان
الصوفية ،ويحكن لنا من ماء البحر أوشحة زرقاء، خبراته و ُتعتّق فيه معتقداته بعد أن تطهى وتسوى
يستخدمن الحكايات الغارقة بالأسرار كإبر تروح
وتجيء في أيديهن مع كل تنهيدة» .فتنسج الكاتبة على مهل لسنوات طويلة.
عد ًدا من الأصوات غير صوتها الأحادي ،لتنتج وعليه ،تتح ّول تفاصيل المطبخ وعملية الطهي -على
حوارية أخرى ليس عمادها إرسال الكاتبة وتلقي الرغم من هامشيتها في الحياة -إلى حياة موازية تعيد
المستقبل ،وإنما تتداخل أصوات أخرى ،وتبدو في توازن الكاتبة ،وتعينها على التعايش مع ألم الوحدة
والغياب ،تقول «تقطيف الملوخية ورقة ورقة أو تقطيع
تصالح تام وانسجام معها ،أو «أوركسترالية» الكوسة تمهي ًدا لتفريزها هي أحداث بسيطة ،لكنها
-بحسب مفهوم الروسي ميخائيل باختين -في توافق
الأصوات المتباينة في «هارمونيا» عالية داخل الخطاب. تفقد الهواجس هيبتها ،وتنزع عن الوحدة قناعها
الجامد» ،فتستعير الكاتبة من هوامش الحياة ما يعيد
تقول في رسالتها (سينابون)« :أتذكر جدتي وهي
تش ّمر عن ذراعين كشمعتين لقداس ناسك وحيد، لمركزية وجودها توازنه .وعليه ،فتقوم بخلق توتر
تعجن بكل همة ،تذكرني أن العجين يفور في خمرانه مقصود عبر منمنمات حياتية في المطبخ ،وصناعة
بهمة عاجنه ،أنفث فيه من روحي ليصبح أشهى ضوضاء بيضاء تعيدها إلى مسار الحياة الطبيعي؛
وأكثر لذة» .بل نكاد أن نسمع مقاطع من الأغاني فترقص على ذبذبات طحن الكمون بد ًل من تناول
المنبعثة من الراديو ،مقاطع من أغاني فيروز ،وأم المهدئات ،وتصنع فوضى الألوان والروائح من أجل
استيلاد خيالات وحيوات أخرى أكثر جمو ًحا وصخبًا
لبعثرة الوحشة؛ وتستعين بالروائح الن ّفاذة للبهار
والقرفة لطمس الرائحة النفاذة للحنين ،ولتصنع
ابتسامة محبة دافئة.
وكما تنتهي مركزية المُر ِسل وهامشية المستقبل في