Page 75 - Pp
P. 75

‫‪73‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

    ‫تزوجت وقتها بعد؛ ر ّن جرس الهاتف الأرضي‬              ‫قال وهو ينظر إليها وهي لا تزال تقبع إلى جواري‬
  ‫تما ًما كما لو أن الرنين أصابع روح غريبة تطرق‬         ‫نظرته تلك إلى سيدة على أعتاب التر ُّمل‪« :‬قل لها‪ :‬لقد‬
  ‫الباب بغتة‪ ،‬فإذا بصوت صالح الطيب الأليف ذاك‬           ‫وافق رئيسه وأخصائي المخ م ًعا على ألا أمل يرتجى‬
‫نفسه يأتي من الطرف الآخر مهنئًا بسلامة وصولي‬
                                                           ‫هناك في نجاة مستر صالح‪ ،‬وفي الواقع‪ ،‬لا شيء‬
    ‫القريب إلى كندا‪ .‬كان صالح سبقني مهاج ًرا إلى‬         ‫هناك قد يكون أكثر رأفة له من القتل الرحيم‪ ،‬وإنه‬
  ‫كندا بنحو خمس سنوات‪ ،‬وقد بدا راغبًا في الكلام‬          ‫لم يتبق في الأخير سوى موافقة الأسرة على القرار‬
‫في أثناء تلك المحادثة غير المتوقعة «ق ُّط»‪ ،‬إلى الدرجة‬
                                                           ‫المتخذ برحيل المريض صالح الطيب»‪ .‬لكأن شيئًا‬
     ‫التي أنستني فيما يبدو لي الآن أن أسأله كيف‬           ‫ثقي ًل يسحب روحي نحو أعماق مظلمة سحيقة لا‬
  ‫تح َّصل على رقم هاتفي رغم حداثة عهدي بالمكان!‬
                                                            ‫قرار لها‪ .‬وأفقت سري ًعا على صوت أمل تسألني‬
    ‫كان حديثه يتجه إلى المنطقة المشتركة من ذاكرة‬             ‫ضارعة هذه المرة أكثر أن أترجم لها «بالحرف‬
      ‫أولئك المنفيين‪« :‬القاهرة»‪ .‬سألني عن الناس‪،‬‬            ‫الواحد» ما قد ظ ّل يقوله لي الطبيب «هذا» بشأن‬
      ‫الأماكن‪ ،‬الحركة الثقافية في مصر‪ ،‬وأشياء لا‬
       ‫أتذكرها الآن‪ .‬بدا من شدة الحنين كأن هذه‬                                      ‫وضع صالح الأخير‪:‬‬
                                                                              ‫«أب ًدا لا تخفي عني شيء»؟‬
  ‫البلاد تك ّشفت له عن وهم جديد آخر‪ ،‬لا عزاء‪ .‬ما‬
    ‫أحزنني أن شخ ًصا ما أخذ يطالبه بإنهاء المكالمة‬                                                 ‫قال‪:‬‬
     ‫«فو ًرا»‪ .‬اعتذر لي بتهذيبه ذاك موض ًحا أ ّنه ظل‬       ‫«قل لها‪ :‬إن القلب قد عاد إلى دقاته الطبيعية تلك‪،‬‬
     ‫يشغل الهاتف بينما أحد رفقائه في ذلك السكن‬
   ‫يتوقع مكالمة هاتفية ما‪ .‬كان صالح عاط ًل وقتها‬             ‫لكن توقف القلب قبل اسعافه لأكثر من ‪ 15‬إلى‬
    ‫عن العمل‪ .‬قلت له‪« :‬لا عليك»‪ .‬كان وعدني قبيل‬           ‫‪ 25‬دقيقة أحدث دما ًرا واس ًعا في المخ‪ ،‬لقد ترددوا‬
  ‫أن ُينهي المكالمة هكذا مرغ ًما مسالمًا أن يمكث معي‬       ‫(ربما) في الإبلاغ عنه لحظة أن توقف قلبه‪ ،‬وإنه‬
  ‫قريبًا بضعة أيام في محافظة «منيتوبا» في طريقه‬
  ‫من «ألبرتا» إلى «أونتاريو» في الشرق‪ ،‬وهو ما لم‬            ‫يتنفس الآن فقط بمساعدة الآلات الطبية‪ .‬بقاؤه‬
  ‫يحدث‪ .‬لم أشأ أن أسأله عن أسرته الصغيرة‪ .‬لقد‬                ‫هكذا ينتقص لا شك من كرامته كإنسان»! كان‬
                                                             ‫صالح حين توقف قلبه يتواجد في بلكونة شقة‬
                     ‫كنت على علم بتباعدهما ذاك!‬            ‫يتشارك إيجارها مع بعض الشباب كذلك بعد أن‬
  ‫في المستشفى الذي لا أزال أعمل فيه‪ ،‬والذي رحل‬           ‫تع ّذر المضي قد ًما مع أ ّم ولديه‪ .‬لقد كانت أمل تراه‬
                                                            ‫بصورة ما خام ًل يسعى وراء الأحلام و»الكتب‬
    ‫منه صالح في صباح بدت فيه السحب السوداء‬              ‫غير المجدية في عالم قاس مثل عالمنا هذا»‪ .‬يا لها من‬
       ‫الكثيفة قريبة كما أذرع تمتد لأخذ عزيز من‬           ‫مهمة عسيرة على الترجمة؟ «قل لها‪ :‬إنهم عادة ما‬
                                                          ‫يتابعون مثل هذه الحالات لمدة ‪ 24‬أو‪ 48‬أو حتى‬
   ‫بين يديك إلى الأبد‪ ،‬ظللت ألقي نظرة إلى ما وراء‬       ‫‪ 72‬ساعة آملين في تحسنها‪ ،‬لكنه مر عليه الآن أكثر‬
   ‫الحواجز الزجاجية لتلك الغرفة القريبة من درج‬              ‫من أسبوع‪ ،‬ولا يزال جسده ينتفض بشدة كلما‬
   ‫الممرضات كلما دلفت إلى قسم العناية الفائقة‪ .‬في‬         ‫حاول معالجوه نزع الآلة المساعدة على التنفس أو‬
‫كل مرة أفعل فيها ذلك‪ ،‬كان يتراءى لي خيال صالح‬            ‫الحياة‪ ،‬وهذا يطيل أمد معاناته‪ ،‬لكأن الجسد يقول‬
 ‫على الفراش وشحوب تلك الأيام على وجه زوجته‪،‬‬               ‫دعوني أذهب»‪ .‬وصمت‪ .‬قلت لها‪« :‬توقف الأطباء‬
‫وهي تقف قبالة عينيه المغمضتين‪ ،‬وقد بدا غير بعيد‬            ‫هنا لكن قدرة الله (يا أمل) لا حدود لها»‪ .‬لم أكن‬
‫منهما الصغيران ضياء وبهاء وهما يعلنان عن خيبة‬            ‫أنظر إلى عينيها‪ .‬قالت وهي تتطلع إلى الجزء الفارغ‬
    ‫أملهما الكبرى في شأن وعد قطعه لهما والدهما‬          ‫من الغرفة‪« :‬وجعي عليك أبو بهاء وضياء يا صالح‬
 ‫قبيل أيام من سقوطه‪ :‬شراء ُلعبة تدعى «كيربي»‪.‬‬
                                                                                            ‫ود نفيسة»‪.‬‬
                                                            ‫قبل نحو أربع سنوات‪ ،‬في أمسية مضيئة بالثلج‬
                                                           ‫المترامي وراء نوافذ شقتي الزجاجية الواسعة في‬
                                                            ‫مدينة كندية أخرى تدعى «وينبيك»‪ ،‬ولم أكن قد‬
   70   71   72   73   74   75   76   77   78   79   80