Page 72 - Pp
P. 72
العـدد 35 70
نوفمبر ٢٠٢1
قريبة بقدر تباشير الربيع لكنّها لا ُت َطال» .مع ذلك، في أجسادنا يوجد في الدماغ .الدماغ كربان السفينة
وجدتني عند نهاية ذلك اللقاء أذكر شيئًا آخر ،عن الغارقة .آخر َمن يغادر» .كيف حدث يا صالح أن
أرقام الهاتف .وقد قلت ُم َع ِّض ًدا حصون جزيرتي كان دماغك أول من ُيغادر؟ كنت تقول كما لو أ ّنك
ضد موج فوضاه« :حاول أن تهاتفني أو ًل ،صال َح نبي جبران خليل جبران :إن السعادة توجد في
صديقي» .فقط ،لو أنني كنت أعلم لحظتها أن ذلك قلوبنا .وهذا يشبه قول أحدهم لك وأنت في الكوفة
إن ما أتي َت للبحث عنه هنا في هذه الأصقاع قد
سيكون آخر لقاء بيننا؟ تركته خلفك هناك في بسطام» .بدا كما لو أن خي ًطا
كان رسخ لدي أنني بدأت أعتاد على هيئته الجديدة من الدموع أخذ يحيط بعينيه المطبقتين .لاح ًقا،
المتداعية كأركان بيت ربما آلت قريبًا للسقوط، أدركت من إحدى الممرضات أنهم ظلوا يبللون عينيه
عندما تناهى صوت أدوين: بسائل ُمر ِّط ٍب من آن لآن.
«وقت الراحة ينقضي سري ًعا ،يا ماجد». ما قد أذكره الآن دون غيره أ ّنه طلب مني عند
أدوين هذا ثعلب ماكر ج ًّدا في مثل هذه الأمور. نهاية لقائنا ذاك قرب بوابة المستشفى أن نكون
يضيف هكذا إلى أوقات الراحة دقائق فوق ما قد على اتصال في «الأيام المقبلة» .تحقق هذا التواصل
هو مقرر .كانت الضحكة البلهاء قارب نجاة أدوين كما ترون أثناء غيبوبته تلك الممتدة كما ليل الأرامل
إذا ما حدث وواجهنا أحد أولئك الرؤساء في العمل. الطويل« .نحن ح ًّقا في حاجة يا صالح إلى هذه
«هههههههه ..هيءهيء» .على أي حال ،واصلنا اللقاءات» .ما لبثت أن أضفت بلوع ِة كا ِت ٍب من ِف ٍّي
هبوط درجات السلّم القليلة تلك المنحدرة من شارع
الكينزواي متجهين إلى عملنا في تلك الطوابق أسفل حتى النخاع« :الكتابة تذبل دون ماء كلام ،يا
الأرض .كان صدى تشوقات صالح الطيب لقراءة صالح»؟ لعل كلانا أنا وهو ظ ّل يتجنّب طوي ًل
ما قد ُكتِ َب في الوطن أثناء غيابنا الطويل الممتد لا الاعتراف علنًا حتى لنفسه أن الشغف بالكتابة لم
يزال يتردد في أذن َّي« :ما جودة ما ُيكتب هناك ،يا يعد حيًّا في أعماقنا بالعنفوان القديم .كانت المعطيات
ماجد»؟ لقد رحل صالح الطيب بعد مضي أسابيع لا تني تشير إلى احتضار ذلك الشغف بالكتابة
قليلة وفي نفسه شيء من حتّى .تلك ثلاثون دقيقة والحوار عنها ،في ظ ّل تصاعد وتيرة واقع مغاير
وربما أكثر لوداع أبدي لا تلا ٍق هناك بعده .قال« :لا
ب ّد يا ماجد صديقي أن أسماء عديدة قد ظهرت على لغو ًّيا وثقافيًّا.
الساحة الثقافية ،في أثناء غيابنا هذا»؟ قلت« :وغيابنا لا بل الشغف لا يزال هناك .أو للدقة لا ب ّد له أن
كثير يا صالح»! ابتسم .لعله أدرك عبر حدس ما يظ ّل كما الهواء لمواصلة العيش .ذلك أن تقارب
أ ّنه لن يكون بوسعه تف ّحص مدى ما تتمتع به تلك
الأسماء من جودة .قلت معتذ ًرا من حديثنا باللغة اللقاءات وتعددها بيننا نحن جمهرة «الن ّقاد
العربية في حضوره« :ذلك صديق قديم ،يا أدوين». والأدباء» قد يبقي على أمل عودة الشغف إلى عهده
كما لو أ ّن أسى ما خالط صوتي .مع ذلك ،لم يخطر
لي أن الأسوأ الغائب لا محالة قادم على الطريق! ذاك وقد تحول منذ مدة على ما بدا إلى محض
سألتني أمل زوجته وأ ّم ولديه ضياء وبهاء بعد رغبة أخرى مغلّفة بالشجن ،أو الحنين ،وقد علمنا
مضي أكثر من أسبوع على سقطته بالسكتة القلبية
أ ّن هذا النزوع العميق للتشبث بأسباب الكتابة
أن أترجم لها «كل شيء». كموقف من العدم ومبرر للحياة قد يتع ّذر تحققه
قالت: عمليًّا إزاء تفاقم حالة اللا استقرار وعنف القوى
«المُ َز ْع ِز َعة» تلك في وضعية المنفى نفسه .وقد ظ ّل
«أنت تعلم كم يعني لي صالح هذا»! يحدث ذلك التباعد بيننا هكذا قس ًرا وباطراد .كذلك
وبك ْت. بدا كلانا أنا وصالح وا ٍع هناك في العمق بحقيقة
أخرى عن طبيعة هذا التيه الذي يدعى «المنفى».
كان طبيب تعود جذوره إلى مكان ما في وسط آسيا تلك الحقيقة التي أشار إليها إدوارد سعيد ،نق ًل عن
وكان شا ًّبا بوجه راهب طيب عجوز قد أجلسنا م ًعا والاس ستيفنس ،ومفادها يتلّخص في كون المنفى
« َعق ُل شتاء» تكون فيه «أنفاس الصيف والخريف