Page 76 - Pp
P. 76

‫العـدد ‪35‬‬                           ‫‪74‬‬

                                                                                ‫نوفمبر ‪٢٠٢1‬‬

                   ‫عبد القادر حيدر‬

                   ‫(السودان)‬

                   ‫العودة من أرض الهروب‬

‫بكامل هيبة الجمال فيها‪ ،‬بابتسامة وحيدة‬            ‫هادئ هذا الصباح‪ ،‬لا شيء يعكر صفوه‬
‫بالحضور‪ ،‬تحا َّبا‬  ‫تستطيع أن تملأ الوجود‬         ‫سوي خشخشة بعيدة في روحه ووخزات‬
 ‫نط ًفا في أصلاب‬   ‫منذ الأزل‪ ،‬منذ أن تخلَّقا‬    ‫حزن لا تلبث أن تتعملق فتعين الوحدة على‬
‫الأجداد‪ ،‬قناعة؛ أنهما السبب في تناسل أجداد‬       ‫إلتهامه‪ ،‬كان يرتب في غرفته بهدوء‪ ،‬اتخذ‬
‫العائلتين حتي ينجباهما ليتاحبَّا فيتزوجا‪،‬‬     ‫هذا القرار منذ مدة إلا أنه لم يملك الجرأة ولا‬
‫اختلج قلبه وتهدجت أنفاسه‪ ،‬الحجر على‬            ‫القدرة على تنفيذه‪ ،‬الترتيب يخرج الذكريات‬
‫قلبه بدأ في التزحزح واستطاعت أنفاسه أن‬           ‫من كهفها فتعود حية من جديد‪ ،‬يفكر من‬
‫تجدرسبي ًل لرئتيه إلا أن خشخشة روحه‬           ‫أين يبدأ‪ .‬ازدادت شخشخة روحه عل ًّوا‪ ،‬شيء‬
‫تزعجه‪ُ ،‬تن ِغص عليه كل شيء‪ ،‬ماذا هناك‪،‬‬           ‫ما يطبق الخناق على قلبه‪ ،‬شيء ما خاطئ‬
‫تلفت حوله‪ ،‬لا شيء يوحي بالانزعاج‪،‬‬              ‫وخاطئ ج ًّدا‪ ،‬لم يصل إلى يقين‪ ،‬بدأ في جمع‬
   ‫إحساسه بالخطر يزداد تض ُّخ ًما‪ ،‬لا بد من‬       ‫الحاجيات المبعثرة في أرجاء الغرفة‪ ،‬تذكر‬
‫تتبع مصدر الإحساس‪ ،‬هو أنفه‪ ،‬نعم هو أنفه‬          ‫حبيبته الراحلة‪ ،‬زوجته التي كانت ستعلق‬
‫الذي يصرخ ويولول‪ :‬رائحة غاز‪ ،‬رائحة غاز‬             ‫بهدوئها المعتاد‪« :‬يا حبيبي‪ ،‬فوضاك هي‬
‫تزحف لتحتل كامل المساحات بعد أن هزمت‬          ‫إحدى تفاصيل جمالك‪ ،‬ماذا لو انتظمت قلي ًل؟‬
‫أنفه! تذكر طفله ذا السبعة أعوام‪ ،‬لقد تركه‬     ‫أظنني سأجدك غريبًا»‪ ،‬تعيد الجوارب وترمي‬
‫يتناول إفطاره في المطبخ‪ ،‬تذكر ولعه بالنار‬     ‫بالبنطال في سلة الملابس المتسخة‪ ،‬تلف ربطة‬
‫فأهتاجت كل الأسئلة والاحتمالات في رأسه‪،‬‬          ‫العنق فى موضعها‪ ،‬وتقول‪« :‬سأتوقف عن‬
‫تذكرها‪ ،‬كانت ستحجب كل الاحتمالات‬               ‫حبك»‪ ،‬و ُتطلق ضحكتها التي تفتح كل منافذ‬
‫الواردة وستدفن كل منابع الخطر‪ ،‬لم يكن‬          ‫الروح على الفرح و ُتبادر‪« :‬هيا‪ ،‬دعنا نتناول‬
‫ليحتاج أن يتعلم كيف يعد الطعام لطفل‬               ‫الطعام لكي تجد متس ًعا من النوم ومزي ًدا‬
     ‫وينسي تأمين الغاز‪ ،‬أخذ يطير عد ًوا إلى‬      ‫من الفوضى»‪ ،‬كانت أجمل من أن توصف‬
‫المطبخ‪ ،‬كانت بينهما غرفتان تطل إحداهما على‬       ‫بمقاييس بشرية‪ ،‬هي من نسل أمنا الأولي‬
   71   72   73   74   75   76   77   78   79   80   81