Page 67 - Pp
P. 67

‫‪65‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

‫لماذا نقرأ الكتب‪ ،‬إذا كنّا على الأرجح نسلك طر ًقا غير‬      ‫هناك‪ ،‬على يدك اليمين‪ ،‬دع الشارع القادم حيث‬
                ‫الطرق التي تشير إليها تلك الكتب؟‬        ‫شجرة النيم الصغيرة‪ ،‬فالشارع الذي يلي دكان ود‬
                                                        ‫الشهيد هناك‪ ،‬فالشارع الذي يلي الشارع الذي يليه‬
 ‫أذكر‪ ،‬خلال لقاء عابر آخر به‪ ،‬أ ّنه قام بكتابة أرقام‬    ‫والذي كان عند ناصيته تلك لو تذكر نادي الحرية‬
  ‫هاتف َّي‪ ،‬الج ّوال والبيت م ًعا‪ ،‬على ظهر غلاف كتاب‬
                                                          ‫الرياضي‪ ..‬الذي كان ُيسمى زمان بنادي الشهيد‬
                            ‫يدعى «لوعة الغياب»‪.‬‬            ‫عبد المحسن الطالب لو تذكر‪ .‬هل تعلم (يا هذا)‬
                     ‫أحد كتب عبد الرحمن منيف‪.‬‬             ‫أن النادي هذا قد ت ّم نقله الشهر الماضي إلى حي‬
 ‫لعله أضاع الكتاب لما ه ّم بزيارتي‪ .‬ربما لم يضعه‪.‬‬
     ‫ربما نسيه فقط‪ .‬لا أكاد أبرأ من ح ّمى الفحص‬          ‫القشارات قريبًا من المقابر؟ لست أدري‪ .‬فالأشياء‬
      ‫والتدقيق‪ .‬ذهني كمرجل يغلي دو ًما بالملاحظة‬         ‫تحدث‪ .‬لو أننا أخذنا نبحث عن سب ِب وعلّة كل ما‬
‫والتفكير‪ .‬حتى أثناء النّوم‪ ،‬لا يهدأ‪ .‬قلت وقد نسي ُت‬       ‫يحدث‪ ،‬فستتوقف الأحداث عن الحدوث‪ .‬الأسلم‬
   ‫وقفتي قرب بوابة مستشفى كند ّي أو تما ًما كمن‬
‫يتابع أحاديث بدأت زمان في القاهرة ولم تكتمل كما‬             ‫أن تدع الأحداث تمضي‪ .‬حسنًا‪ ،‬يا هذا‪ ،‬عندها‬
  ‫العادة في حينه‪« :‬كنت قبل حضورك هذا مباشرة‬               ‫يمكنك أن تلف يمينًا‪ ..‬بالطبع عند أول شارع يلي‬
‫(يا صالح) أتأ ّمل في أعقاب السجائر المتناثرة هذه»‪.‬‬       ‫ذلك‪ .‬ستجد تاليًا بعد بيتين على يدك الشمال هذه‬
 ‫أجل‪ ،‬ثمة ما ظ ّل يشدني إلى هذه الأشياء‪ .‬لعله هنا‬       ‫المرة بيتًا من الطين أمامه هيكل عربة تاكسي قديم‬
    ‫الشوق إلى مطالعة الأشجان الذاهبة عبر أنفاس‬            ‫ماركة هنتر يقف على عجلات الحديد‪ ،‬فدعه‪ ،‬لأن‬
     ‫السجائر‪ .‬وكنت على يقين تا ّم أن صالح الطيب‬          ‫هذا هو بيت الج ّزار حسين كجروس الذي اشتراه‬
    ‫قد أدرك ما رميت إليه من أمر الأعقاب‪ .‬لولا أ ّنه‬      ‫مؤخ ًرا من خضر مدني الس ّواق‪ .‬ثم واصل المشي‬
    ‫بدا عاز ًفا عن الخوض في أحاديث «قد لا يسعها‬
 ‫ضيق وقتي المخصص للراحة»‪ .‬ثلاثون دقيقة كان‬                   ‫في الشارع نفسه ولا تلتفت أب ًدا نحو طاحونة‬
  ‫عليَّ خلالها أن أدخن‪ ،‬أتناول شيئًا من الطعام على‬     ‫كوراك على يدك اليمين‪ ،‬لأ ّنك والله لو صادفت عنده‬
  ‫عجل‪ ،‬قبل أن أعود إلى مواصلة العمل عبر طوابق‬           ‫الحا ّجة أ ّم نورا الأمين الدلاليّة فلن تدعك تذهب في‬
    ‫المستشفى تحت الأرض‪ .‬كان من ضمن َم َها ّمي‬
  ‫في ورديات «غير وردية هذا المساء» أن أختلف إلى‬           ‫حال سبيلك حتى تعرف هي ما جد أبيك السابع‪.‬‬
 ‫الأقسام الداخليّة للمستشفى‪ ،‬وأقوم طوال ساعات‬          ‫وربما تقنعك هذه العجوز الثرثارة بشراء بعض تلك‬
  ‫الوردية بتجميع كراتين وجرادل بلاستيك صفراء‬           ‫الثياب‪ .‬حسنًا‪ ،‬دعنا نركز هكذا على الناحية الشمال‪،‬‬
     ‫وبرتقاليّة محكمة الإغلاق تحتوي على مخلّفات‬
      ‫العمليات الجراحي ّة والحقن المستعملة وبعض‬           ‫حيث ستجد بيتًا هو البيت الوحيد الذي تتصدره‬
 ‫الأعضاء الحيوية المنتزعة من جثامين الموتى وغير‬         ‫شجرة يقبع أسفلها دائ ًما كلب ُمر َّقط هزيل لا يبالي‬
               ‫ذلك مما يضع عليه علامة التحذير‪:‬‬           ‫بحرامي أو شريف‪ .‬البيت المجاور لهذا البيت بابه‬
                   ‫«خطر حيوي‪.»Bio Hazard ..‬‬
       ‫بعد الانتهاء من طوافي ذاك ما بين الأقسام‪،‬‬            ‫أخضر‪ .‬وهو بالضبط بيت شيخ بابكر المأذون‬
 ‫مستخد ًما عربة نقل يدو ّية حمولة ألف كيلو جرام‪،‬‬           ‫الذي سألتني أنت عنه‪ ..‬لا شكر على واجب‪ ..‬ثم‬
   ‫أضع الكراتين والجرادل كل في جهة مختلفة عن‬
    ‫الأخرى‪ ،‬داخل ثلاجة شديدة البرودة‪ ،‬أشبه في‬                            ‫بالتوفيق‪ ..‬في أمان الله‪ ،‬يا هذا»‪.‬‬
 ‫ضخامتها بغرفة المسافرين في تلك الأزمنة‪ ،‬قبل أن‬         ‫كذلك‪ ،‬صم َت قلي ًل صديقي الناقد المثقف الحصيف‬
‫يت ّم الدفع بها في يومي الاثنين والجمعة إلى رصيف‬
  ‫الشحن الداخليّ‪ ،‬تمهي ًدا لنقلها وحرقها في مكان ما‬       ‫صالح الطيب (ذاك اسمه)‪ ،‬مفس ًحا المجال على ما‬
                                                        ‫بدا لفرحة لقائي به‪ .‬وربما صمت كي يتيح لي ذلك‬
                               ‫خارج المستشفى‪.‬‬
                                                           ‫الوقت اللازم لملاحظة أ ّنه لم يتخل‪« ،‬حتى الآن»‬
                                                        ‫برغم سنوات منفاه الطويل الممتد في بلاد الآخرين‬
                                                       ‫شر ًقا وغر ًبا‪ ،‬عن عادة النشأة الأولى تلك في التع ّرف‬
                                                        ‫على العناوين ورؤية النّاس من غير إشعار مسبق‪.‬‬
                                                        ‫شيء ما يحملني على التوقف‪ ،‬كلما أخذت في تذكر‬

                                                           ‫كيف ض ّل صالح الطيب طريقه ذاك إلى شقتي‪.‬‬
                                                          ‫وأبدأ مستعي ًدا ذكرى مواقف أخرى في التساؤل‪:‬‬
   62   63   64   65   66   67   68   69   70   71   72