Page 69 - Pp
P. 69

‫‪67‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

   ‫ذاكرتي من تلك الليالي الكثير‪ .‬ما تبقى لم يكن في‬      ‫المرة بلغتنا الأ ّم‪ ،‬تركنا أدوين كي يواصل وحده‬
  ‫معظمه سوى ظلال‪ .‬لك َّن شيئًا ضمن تلك الأشياء‬        ‫ما قد بدا لي الحلم ذاك بامتلاك المال‪ .‬شأنه في هذا‬
‫القليلة بقي محتف ًظا مع مرور الوقت بنفس طزاجته‬        ‫شأن أي فلبيني حاذق آخر‪ .‬لكن «أن تحلم بالغنى‬
                                                       ‫أو الثراء الفاحش في بلاد كهذه البلاد لهو محض‬
      ‫الأولى‪ .‬صو ُت صالح يخاطب زوجته في نهاية‬
                                         ‫سهرة‪:‬‬             ‫وهم»‪ .‬قد يتحقق الأمر كما ضربة ح ٍّظ عابرة‬
                                                          ‫لحواجز «الرق الحديث» المرسومة بدق ِة ومك ِر‬
          ‫«إلينا (يا أمل) باللحمة وفرح الكوارع»؟!‬      ‫حاخام‪ .‬لم يكن المال على أي حال بالنسبة لصالح‬
   ‫قصة كفاح صالح المستميت ذاك لأجل الحصول‬                ‫الطيب عهدي به سوى وسيلة لا ب ّد منها لجلب‬
                                                       ‫بعض أفراح الحياة الصغيرة‪ ،‬كما وجبة لحم‪ ،‬إلى‬
       ‫على لحمة قصة متجذرة عمي ًقا في ذلك المزيج‬      ‫ما يدعونه «المائدة»‪ .‬طعام وشراب ومأوى ونافذة‬
                   ‫السحري من الحقيقة والخيال‪.‬‬        ‫ومقعد وطاولة للكتابة‪ .‬ذلك ج ّل ما كان يطمح إليه‪.‬‬
                                                        ‫كان جسد صالح على فراش موته يحكي ببراعة‬
    ‫قصة ربما بدأت أحداثها قبل ميلاده‪ .‬كما لو أن‬          ‫عن جملة الوقائع التي قد ينطوي عليها التاريخ‬
  ‫جا ًّنا مسل ًما بقي يهمس له الشهر الأخير من حمل‬        ‫العريق للفقر‪ ،‬أو المعاناة‪ .‬وهو على الفراش ذاك‬
                                                         ‫نفسه‪ ،‬أقبلت إلى المكان المخصص للز َّوار خارج‬
   ‫أ ّمه به‪« :‬سيكون قلي ًل نصيبك ذاك يا صالح من‬          ‫قسم «العناية الفائقة»‪ ،‬فاطمة‪ ،‬إحدى صديقات‬
   ‫اللحمة‪ .‬نحو المائتي خرو ًفا‪ .‬ليس بوسع أي حيلة‬       ‫أمل‪« ،‬زوجة صالح على الورق»‪ .‬إن تسألني أنت‪،‬‬
   ‫في هذا الكون الوسيع قاطبة بقادرة على زيادة ما‬          ‫فأنا لا أدري بالضبط كيف استق ّرت علاقتهما‬
 ‫هو مق ّدر‪ .‬لن تنال نصيبك هذا بالتساوي‪ .‬وهذا ما‬        ‫على ذلك النوع من «التباعد»‪ ،‬بحيث غدا كل منهما‬
 ‫يزيد الحسرة‪ .‬تما ًما كمن ُيلقى في النهر ساع ًة بعد‬     ‫يقطن منذ مدة في مكان مختلف‪ .‬لك ّن صالح هذا‬
   ‫طول جفاف قبل أن يحمل الماء في ذاكرته ويتق ّدم‬        ‫بدا لي دائ ًما وعلى الرغم من صرامته الباد ّية تلك‬
‫ماضيًا من مفازة إلى مفازة بأمل العثور مجد ًدا على‬     ‫في نقد النصوص وص ًفا وتحلي ًل أكثر وداعة وأق ّل‬
                                                     ‫شجاعة من أن يلتقط كلمة مثل «الطلاق»‪ ،‬ويأخذ في‬
                           ‫فردوس الماء المفقود»!‬
      ‫لعمري‪ ،‬ستبقى قص ُة صالح هذه مع اللحمة‪،‬‬                                                ‫فحصها!‬
  ‫كنموذج لذلك التعارض القائم حتى النهاية ما بين‬       ‫كانت فاطمة في منتصف الثلاثين‪ .‬بدا من ثرثرتها‬
                                                     ‫أ ّنها لم تتخلّص بعد مما يدعونه في أوساط المثقفين‬
                    ‫رغبة ما وعدم تحققها الأغلب‪.‬‬
 ‫ربما لهذا إلى جانب ما ينطوي عليه هذا من حسرة‬                              ‫«آثار الصدمة الحضارية»‪.‬‬
  ‫ما يجعل هذا النوع من التجارب عصيًّا على المحو‪.‬‬       ‫قالت فاطمة وهي تحاول انتزاع أمل‪ ،‬من صحراء‬

      ‫إننا لا نتحدث هنا عن حرمان مطلق‪ .‬إنما عن‬             ‫عزلتها الداخلية المقبضة تلك‪« :‬إن الخواجات‬
   ‫تلك المسألة غير القابلة طوال سنوات عمر صالح‬       ‫يتذكرون في مثل هذه الحالة «أح ّب الأشياء إلى قلب‬
                                                      ‫المريض»‪ .‬لم تقل كذلك لرهافتها «قلب الموشك على‬
           ‫القصير نو ًعا ما للح ّل‪ .‬مسألة الإشباع!‬   ‫الموت»‪ .‬لقد أخذ اليأس عن عودة صالح معافى يتخذ‬
 ‫على أن ملابسات ق ّصة صالح مع اللحمة طفت على‬         ‫في تلك الأيام صو ًرا عدة‪ .‬كما لو أن كل نفس هناك‬
                                                     ‫تتهيأ لفكرة رحيله‪ .‬قالت زوجة صالح دون تفكير‪:‬‬
    ‫السطح على وجه الخصوص خلال حكم السادة‬
‫الرئيس الأسبق جعفر مح ّمد نميري‪ ،‬كحدث مركز ّي‬                   ‫«كان صالح الطيب هذا‪ ،‬يح ّب اللحمة»‪.‬‬
                                                                ‫وجدتني أتذكر خط ًفا ليال ّي القاهرة تلك‪.‬‬
     ‫«دال»‪ .‬هكذا‪ ،‬يأخذني الحنين المستحيل هذا إلى‬      ‫أين ذهب إذن وضوح تلك الحوارات «بيننا»‪ ،‬جلاء‬
‫بعث ومخاطبة صالح الطيب مرة أخرى وقد مضت‬               ‫مساجلات نقدية‪ ،‬وألق دعاوى الحساسية الجديدة‬
 ‫سنوات عديدة على موته‪ ،‬إلى محاولة استعارة لغته‬         ‫في «الفكر والأدب»؟ ُف ِج ْع ُت لما تبين أ ّنه لم يتب َق في‬

     ‫النقد ّية الصافية‪ ،‬في وصف وتحليل النصوص‬
                                      ‫والوقائع‪.‬‬

  ‫وقتها‪ ،‬انضم صالح على غير توقع وهو الذي كان‬
‫يعرف في الوسط الثقافي لوقت طويل بالفقير الهندي‬

    ‫إلى ما كان يعرف بمثقفي «الاتحاد الاشتراكي»‪.‬‬
   ‫هناك دو ًما خيط رفيع من الصبر يبقى كما الحد‬
   64   65   66   67   68   69   70   71   72   73   74