Page 66 - Pp
P. 66
العـدد 35 64
نوفمبر ٢٠٢1
عبد الحميد البرنس
(سوداني في كندا)
نائي ال َم َح ِّلَ ..سحيق الدار
هذا ،إلا ِلا ًما .أشعلت سيجارة .سرعان ما جذبتني «الأشياء التي لا تسترعي الانتباه عادة ،تأخذ
مجد ًدا ،الأعقا ُب نفسها .كان برفقتي أدوين .فجأة، بألباب أمثالنا نحن الذين ُكتِ َب عليهم شقاء البقاء
في بلاد الآخرين ،حتّى أننا قد نستغرق سنوات
شعرت كما لو أن ق ّوة غامضة تمسك بناصيتي في تأ ّملها ،إلى الدرجة التي قد تضيع معها أحيا ًنا
وبصري بإحكام وتديرهما باتجاه شارع الكينزواي تفاصي ُل كل ما يم ّت إلى ظاهر هذا الوجود بصلة.
لقد كان علينا أن نتيه طوي ًل في الأصقاع ،مش ّردين
أمامنا .كان من الممكن توقع أي شيء لحظتها عدا دون مقدمات ،خائفين ح ّد ال َر ْع َدة عند كل منحنى
رؤيته .كذلك ،انشق ْت الأرض عنه ،ما إن بدأ ُت
وشبر وحجر ،عرض ًة عن عمد وسابق ترصد
التدخين هناك ،قريبًا من إحدى بوابات المستشفى، للصغار وسوء الظ ّن والشجن ،مدفوعين لِعشق
الذي سيشهد بعد مضي أسابيع خروج روحه في الظلال هذا الذي لا تخفق له الأغلب قلوب أقعدتها
طمأنينة العيش ،منجذبين على الدوام صوب ما لا
قسم العناية الفائقة. ُيرى وما قد يبدو للكثيرين إذا حدث أن تو ّقفوا عنده
لكأنه أقبل لوداعي. محض شيء أوجده الله للنسيان ،أو نحوهَ ِ .ل إذن
هذا ما أدركه الآن. هذا الولع المرض ّي المزمن بالمهمل والمه ّمش والقصي
قال وقد تو ّقف قبالتي إنه كان «قبل يومين يلف في
الحي» الذي أسكن أنا فيه وإنه «حسب وصفهم» لم والمهان كما قنطرة؟
يتع َّرف على «بيتي». ِ َل مثل هذا الولع ،في حياة أمثالنا نحن المنفيين
كان يقصد «شقتي». طعام الحنين الأزل ّي ،منذ أن غادر آدم الجنّة مكر ًها،
لم تهمد حرارة اللقاء به ،حين قدمت له سيجارة. إلى أر ٍض لا ُتحسن معاملة الغرباء ،حتى يحدث
تناولها بما بدا الفرح .قال« :جميل أن أراك ثاني ًة أن يتس ّمر أحدنا مترقبًا هكذا قبيل مغيب الشمس
يا ماجد» .أخذ يتف ّقد جيبي بنطاله الأماميين كمن
يبحث عن و ّقادة في قلب الضياع ،أو المتاهة .سارع ليشهد فقط عود َة الطيور إلى أوكارها؟
أدوين وأوقدها له .مستكم ًل ما بدأ به ،أضاف أ ّنه خطر لي ذلك ،لما وقع بصري على أعقاب السجائر.
كان يهم ساعتها بزيارتي« ،لولا أن وصفهم ذاك هذه الأعقاب التي ربما ضجر بها ع ّمال النظافة في
لم يكن دقي ًقا» .ثم ابتسم كما لو أ ّنه طفل في نحو
هذه الأنحاء فتركوها لحالها مم ّوهة بالتراب وما
السابعة. يراكم المناخ ،قد أخذ ْت تحتل منذ مدة مساحة في
َو َم َض في ذهني كيف كنّا نرسم للغرباء خارط َة دماغي بحجم باريس ،وقد كان من الممكن أن أضيع
الطريق إلى العناوين والاستدلال عليها على طريقته فيها مرا ًرا أنا كائن الذكريات ،بينما أستعيد السيرة
المتخيّلة لتلك الأيدي التي ألقت بها من أعقاب «هنا»،
هذه ،فيما كنّا ندعوه: ولا أعثر على ما ظ ّل يتراءى لعين ّي من ظاهر الوجود
الوطن!
«حسنًا يا هذا ..انتبه لوصفي هذا جيّ ًدا: