Page 11 - merit
P. 11

‫إبداع ومبدعون ‪9‬‬                                              ‫بها تتجاوز هذه القصة عملية التداخل إلى عملية‬
                        ‫رؤى نقدية‬                            ‫بناء ممكنات جديدة تدعم قالبها القصير وما قد‬

      ‫المواسي والشاكي المشتكي والمعزي والمتعزى‬                       ‫ينصهر فيه من أشكال وأنواع سردية‪.‬‬
     ‫م ًعا‪ .‬ناهيك عن تداعيات رومانسية تغلب عليها‬             ‫ومثالنا قصة (الإقامة على الأرض)(‪ )2‬القصيرة‪،‬‬
‫السوداوية والتشاؤمية‪ ،‬وتتكرر فيها مفردات الموت‬             ‫وفيها عمد القاص العراقي جهاد مجيد إلى تجريب‬
  ‫والشتاء والمقابر والقبرات وهو ما يذكرنا بشعراء‬
    ‫العصر الحديث الرومانسيين كإيليا أبي ماضي‬                    ‫التداخل النصي بين القصة وقصيدة التفعيلة‬
      ‫وإبراهيم ناجي‪ .‬يقول حسب الشيخ جعفر في‬                ‫(الإقامة على الأرض) للشاعر حسب الشيخ جعفر‬
  ‫قصيد (وجه الموت) من ديوانه (الطائر الخشبي)‬
‫راثيًا نفسه معاتبًا وحزينًا‪ ،‬ولا شيء يواسيه سوى‬              ‫جاع ًل من القصيدة أرضية‪ ،‬عليها انبنت القصة‬
                                                          ‫القصيرة التي تجاوزت التداخل عابرة على القصيدة‬
                                 ‫الخواء والريح‪:‬‬
                              ‫«وحدك مثل الثمرة‬              ‫محتوية إياها وفارضة قالبها بالصهر والتهجين‪.‬‬
                                                          ‫وفاعلية العبور الأجناسي تقوم على اتخاذ القصيدة‬
                                  ‫فاجأها الشتاء‬           ‫قاعدة‪ ،‬عليها ُتشيِّد القصة القصيرة ُبنيانها محتوية‬
                                ‫تصدح مثل قبرة‬
          ‫عبر صحارى الغسق القطبي والبكاء»(‪.)3‬‬                  ‫القصيدة فيها متنًا وعنوا ًنا‪ ،‬شك ًل ومضمو ًنا‪،‬‬
‫ويكثر لديه النزوع نحو السرد بشكل واضح والميل‬                  ‫مستلهم ًة أجواءها ذات الطابع الرثائي ومنطلقة‬
    ‫إلى التناص مع الأساطير السومرية والإغريقية‬             ‫من المفاضات الشعرية نفسها‪ .‬وهنا مكمن التحدي‬
    ‫والحكايات الشعبية‪ ،‬تدلي ًل على مرجعية شعرية‬               ‫أعني التشييد السردي على منوال نص شعر ٍّي‬
       ‫غنية تغوص في قديم الشعر وحديثه بعربيه‬               ‫بعينه وفي الوقت ذاته ابتداع خصوصية بها تمتلك‬
    ‫وعالميه‪ ،‬آخذة أمداءها من شعر أبي العلاء وأبي‬             ‫القصة القصيرة فرادتها كجنس عابر على جنس‬
    ‫نواس ومهيار الدمشقي والشعراء الروس مثل‬
  ‫بوشكين والكساندر بلوك ومايكوفسكي ورسول‬                                                  ‫قصيدة التفعيلة‪.‬‬
      ‫حمزاتوف‪ ،‬والمسرحيات مثل روميو وجوليت‬                      ‫وقبل أن ندلل على التجريب علينا أو ًل أن نلم‬
      ‫لشكسبير ومسرحيات سترندبيرغ‪ .‬وهذا كله‬                  ‫بطيبعة القصيدة المتناص معها كي نعرف دواعي‬
‫أعطى لتجربة حسب الشيخ جعفر خصوصية حتى‬
   ‫صارت مدرسة شعرية في عالم الحداثة الشعرية‬                                                     ‫اختيارها‪.‬‬
     ‫العربية بعامة وكتابة قصيدة التفعيلة بخاصة‪.‬‬              ‫بد ًءا نقول إن للشاعر حسب الشيخ جعفر مكانة‬
      ‫والسؤال المطروح هنا إذا كانت هذه القصيدة‬             ‫فريدة في عالم الشعرية العربية وقصيدته (الإقامة‬
       ‫متفردة؛ فلماذا لم يكتف القاص جهاد مجيد‬              ‫على الأرض) كتبها حين كانت تجربته الشعرية في‬
‫بالتناص معها؟ وكيف تمكن من التحرر من التداخل‬              ‫ع ِّز عنفوانها‪ .‬وميز ُة هذه القصيدة ليست في تقدمها‬
                     ‫معها وانتهى بالعبور عليها؟‬           ‫على القصائد الثلاث التي تليها وهي (زيارة السيدة‬
    ‫إ َّن الذي جذب القاص جهاد مجيد نحو (الإقامة‬           ‫السومرية التي منها أخذ الديوان اسمه‪ ،‬وفي أدغال‬
  ‫على الأرض) هو إمكانية جعلها قاعدة عليها يبني‬              ‫المدن‪ ،‬وهبوط أورفي والدورة) حسب وإنما أي ًضا‬
     ‫قصته سائ ًحا سرد ًّيا في أجوائها محلِّ ًقا شعر ًّيا‬     ‫صلتها الثيماتية الوثقى بها كونها ترثي صدي ًقا‬
  ‫مع تجلياتها‪ ،‬صان ًعا له كو ًنا سرد ًّيا خا ًّصا يعكس‬     ‫قدي ًما‪ ،‬فض ًل عن إشارة الشاعر في الهامش إلى أنه‬
     ‫رؤيته للعالم متجاو ًزا ومتم ًما ومستكم ًل إياها‬      ‫كتب هذه القصائد الأربع مجتمعة عام ‪ ،1972‬وهو‬
                                                            ‫ما يدلل على قصدية الشاعر في توكيد ذاته ككيان‬
                                        ‫إبداعيًّا‪.‬‬
       ‫وعلى وفق نظرية التناص يكون التداخل مع‬                   ‫ناطق بالشعر‪ ،‬ينظر للعالم بعين باكية ويكتب‬
  ‫أسطر القصيدة نصيًّا فقط‪ ،‬لا يتعدى حدود البنية‬                        ‫للإنسان بألم‪ ،‬راثيًا نهايته المأساوية‪.‬‬
     ‫والنظام الداخلي وهو ما يصلح معه التوصيف‬
  ‫بـ(قصة شعرية)‪ ،‬بيد أننا على وفق نظرية العبور‬                 ‫والمعروف أن قصيدة التفعيلة شأنها شأن أية‬
                                                               ‫قصيدة لها أغراضها والرثاء واحد منها‪ .‬ومن‬
                                                            ‫يتمعن في القصيدة (الإقامة على الأرض) يجد أن‬
                                                           ‫الشاعر هو المتفجع الباكي والنادب المتألم والناعي‬
   6   7   8   9   10   11   12   13   14   15   16