Page 92 - merit
P. 92

‫العـدد ‪44‬‬                         ‫‪90‬‬

                                                              ‫أغسطس ‪٢٠٢2‬‬

‫إدريس فرحان علي‬

‫(سوريا)‬

‫الثالثة ودقيقتان فجًرا‬

       ‫كانت ليلة حارة ج ًّدا‪ ،‬يصعب النوم فيها من‬          ‫تردد كثي ًرا قبل أن يكتب ما يحصل له ولعائلته‪،‬‬
‫الحماوة ومن تكاثر البق والناموس‪ ،‬ولا يخفى على‬             ‫كان قد حمد الله ذلك اليوم مئات المرات لأن ابنه‬
 ‫أحد العلاقة الحميمة بين الليل الحار والبق‪ ،‬إلا أن‬       ‫الصغير بسنواته الخمس نجا بأعجوبة من حادث‬
 ‫عدم وجود الماء في بيته منذ أيام هو ما أقلقه أكثر‪،‬‬     ‫سير‪ ،‬حين صدمته سيارة دفع رباعي وألقته أر ًضا‬
‫فهذا الأمر كفيل بأن يفتح عليه باب جهنم النكد من‬            ‫أمام باب بيته‪ ،‬تاركة كدمات خفيفة على جسده‬
                                                         ‫الغض و َور ًما في الجانب الأيسر من رأسه وبقع ًة‬
  ‫زوجته التي ساندته في كل المصائب والمحن طيلة‬
  ‫سنوات زواجهما‪ ،‬وتحملت معه كل شيء إلا أمر‬                     ‫بنفسجية قاتمة تحت شحمة أذنه اليسرى‪.‬‬
                                                          ‫حمد الله مئات المرات لأن ابنه ما زال حيًّا‪ ،‬وكان‬
                          ‫الماء وفقدانه من البيت‪.‬‬          ‫من الممكن أن يخسره في لحظة سهت فيها عي ُن‬
  ‫كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل‬
   ‫ولا يزال الماء غائبًا والأواني والصحون المتسخة‬                           ‫ملائكة الرحمة عن حراسته‪.‬‬
  ‫مكدسة في المطبخ‪ ،‬لذا آل على نفسه ألا ينام حتى‬          ‫ك ُّل ما م َّر به لم يفقده الثقة والسيطرة على نفسه‪،‬‬
  ‫تتك َّرم عليه آلهة الأرض بساعة من الكهرباء‪ ،‬لعله‬
   ‫يستطيع فيها من مساعدة «دينمو الماء» في شفط‬              ‫بل تحامل على وجع قلبه وأوجاع صغيره حين‬
   ‫ما علق من ماء أسفل أنابيب شبكة المياه‪ ،‬وبذلك‬              ‫تعامل مع أهل السائق الشاب في المشفى بكل‬
   ‫يكسب ود أم العيال ويزيح عن قلبها بعض الهم‬                                     ‫احترام وود يليقان به‪.‬‬

            ‫على صغيرها الجريح النائم بعد إعياء‪.‬‬         ‫بقي متماس ًكا رغم سيل الشتائم التي تل َّقاها مرا ًرا‬
‫كان ممد ًدا إلى جانب الصغير‪ ،‬يربت على ظهره كلما‬          ‫من ذاته الأخرى التي أنبته في الكثير من المواقف‬
‫تنحنح أو أ َّن من ألم رأسه المتورم حين جادت آلهة‬       ‫المشابهة على بقائه في هذه البلاد التي «لم تعد تشبه‬
 ‫الأرض بالكهرباء‪ ،‬انسل بحذر من يد الصغير على‬           ‫بلاده»‪ ،‬رغم الفرص المتكررة التي سنحت له للهرب‬
 ‫صدره‪ ،‬ونزل من السطح مسر ًعا نحو الـ”دينمو”‬
‫ش َّغله وفتح اللولب الموصول به من الخط الرئيسي‬                                      ‫نحو الشمال البارد‪.‬‬
                                                           ‫لكن ما حدث معه في تلك الليلة أفقده كل هدوئه‬
                       ‫لشبكة المياه وبدأ بالشفط‪.‬‬         ‫وثباته الزائف‪ ،‬فبعد أن انف َّض عنه ضيوفه الذين‬
‫كان قد اكتسب خبرة في معرفة فنون شفط وسحب‬                  ‫توافدوا للاطمئنان على صغيره‪ ،‬صغيره الذي لا‬
                                                          ‫يكاد ينجو من فخ موت إلا ويقع في آخر‪ ،‬وكأن‬
  ‫الماء‪ ،‬فمن خلال السحبة الأولى يعلم إن كان هناك‬
 ‫ماء أم لا‪ ،‬الأنابيب مليئة أم فارغة‪ ،‬لذا أسعده ج ًّدا‬       ‫الله يمتحن صبره في أولاده‪ ،‬حم َل مع زوجته‬
                                                           ‫صغيريهما إلى سط ِح المطبخ حي ُث منامة العائلة‬
   ‫الثقل في فمه وهو «يشفط» الماء مسان ًدا للدينمو‪،‬‬
                                                                                                ‫صي ًفا‪.‬‬
   87   88   89   90   91   92   93   94   95   96   97