Page 94 - merit
P. 94

‫العـدد ‪44‬‬  ‫‪92‬‬

                                                  ‫أغسطس ‪٢٠٢2‬‬

‫أميرة مصطفى‬

‫(ألمانيا)‬

‫قاَّر ُة العجوز‬

‫ندري ما بنا حتى أننا لم نعد نشعر بحرارة الجرح‬     ‫في القارة العجوز‪ ..‬مدينة شمال البلاد أزقتها مبللة‬
    ‫ولا برودة المشاعر‪ ،‬أصبحنا ُحطا ًما مهشمة لا‬    ‫ودموع ساكنيها رطبة أب ًدا‪ ،‬في الحي الذي يحاذي‬
                                ‫ننتهي ولا نبدأ‪.‬‬   ‫مشفى الأطفال‪ ،‬أبنية تتلاصق ببعضها لشدة ضيق‬
   ‫تصفن بهار وكأنها تاهت في متاهات العتمة‪ ،‬إلا‬      ‫المساحة‪ ،‬وحديقة كبيرة مقاعدها اهترأت من ثقل‬
   ‫أن دلبرين ينتشلها من التيه ويسرد حكاية هو‬
     ‫بطلها‪ ،‬يشير بسبابته إلى شيء ما وكأنه يراه‬       ‫الهموم التي تسربت من أرواح المترددين عليها‪،‬‬
                      ‫ويتابع‪ ..‬هنا كل شيء على‬      ‫وكان أكثر زوارها رج ٌل كردي يقال إنه من غربي‬
                      ‫ما يرام يا عزيزتي‪ ،‬الناس‬     ‫كردستان‪ُ ..‬يدعى دلبرين الأسمر‪ ،‬نحيل‪ ..‬وطويل‬
                       ‫يسابقون عقارب الساعة‬
                             ‫ويركضون باتجاه‬           ‫القامة‪ ،‬جمعته أحلام لغ ٍد لن يأتي‪ ..‬والذي يراه‬
                            ‫المحطات‪ ،‬وأنا أي ًضا‬  ‫يقرأ على جبينه النهايات لكل بداية لن تبدأ‪ ،‬وجفاف‬

                                                       ‫فصول أعمارنا التي لن نعيشها يو ًما‪ .‬دلبرين‬
                                                    ‫الوسيم متزوج من فتاة ذات الواحدة والعشرون‬
                                                   ‫ربي ًعا وتدعى بهار‪ ،‬ممشوقة القامة حنطية البشرة‬

                                                      ‫كقمح بلادها وشعرها الكستنائي أشبه بأوراق‬
                                                    ‫أعمارنا التي تتساقط عنوة عندما تلطمها الأيادي‬

                                                                                         ‫الدنسة‪.‬‬
                                                    ‫بهار أم لولدين‪ ،‬البكر يشتكي من إعاقة في رجله‬
                                                   ‫اليسرى اسمه روج‪ ،‬يبلغ عامين من العمر‪ ،‬وسيم‬
                                                  ‫كما أنه لوحة رسمت بدهشة أنامل دون أن تكتمل‪.‬‬
                                                  ‫لكن أمه بقدر ما يشغل بالها إعاقته لا تبالي إذا كان‬
                                                  ‫ولدها وسي ًما أم لا‪ ،‬من يكون قبي ًحا في نظر أمه؟ لا‬
                                                    ‫أحد‪ .‬فهو أقرب إليها من روحها المتشتتة المنهكة‪.‬‬

                                                       ‫منذ مجيئها لهذه البلاد وهي تحاور جراحها‬
                                                     ‫البليغة مع زوجها‪ ..‬تسأله‪ :‬أين نحن من أنفسنا‬
                                                     ‫وأي لعنة حلت علينا فانتهى بنا المطاف إلى هذه‬
                                                   ‫المدينة الخاوية من الحياة؟ يتسرب من بين أناملها‬
                                                      ‫صقيع يتمدد كلما لمسه هبوب الريح القادم من‬
                                                   ‫أطرافنا المكسورة‪ ،‬عجبًا لهذه الحياة يا عزيزي‪ ،‬لا‬
   89   90   91   92   93   94   95   96   97   98   99