Page 9 - كتاب النبأ العظيم
P. 9

‫مســــتوى لا يرضــــونه لأنفســــهم فــــي الخطــــاب‪ ،‬ولــــو خاطبــــت العامــــة باللمحــــة والإشــــارة‬
‫لَ ِجئْـــتهم بمـــا لا تُطيقـــه عقـــولهم‪ ،‬فأمـــا أن ُجملـــة واحـــدة تُلقـــي إلـــى العلمـــاء وال ُجهـــلاء فيراهـــا‬
‫كــل منهمــا ُمقــ َّدرة علــى مقيــاس عقلــه‪ ،‬فــذلك مــا لا تجــده علــى أتَ ِمــه إلا فــي القــرآن الكــريم‪:‬‬

                                                          ‫" َو َلقَ ْد يَ َّس ْر َنا ا ْلقُ ْرآ َن ِلل ِذ ْك ِر فَ َه ْل ِمن ُّم َّد ِكر"‪.‬‬
‫وأيضـــا مـــن خصائصـــه إقنـــاع العقـــل وإمتـــاع العاطفـــة‪ :‬إن أســـلوبا واحـــدا يجمـــع فـــي يـــديك‬
‫هـــذين الطـــرفين معـــا‪ ،‬كالغصـــن الواحـــد مـــن الشـــجرة يحمـــل أوراقـــا وأزهـــارا وثمـــارا‪ ،‬فـــذلك‬
‫مـــا لا تظفـــر بـــه فـــي كـــلام البشـــر‪ ،‬ولا تجـــده إلا فـــي القـــرآن الكـــريم‪ .‬ألا تـــراه فـــي فســـحة‬
‫قصصـــه وأخبـــاره لا ينســـى حـــق العقـــل مـــن حكمـــة وعبـــرة؟ أولا تـــراه فـــي معمعـــة براهينـــه‬
‫وأحكامــــه لا ينســــى حــــظ القلــــب مــــن تشــــويق وترقيــــق؟ وكــــذلك مــــن خصائصــــه البيــــان‬
‫والإجمــــال‪ ،‬تــــرى للجملــــة الواحــــدة أو الكلمــــة الواحــــدة وجوهــــا عــــدة‪ُ ،‬كلهــــا صــــحيح أو‬
‫محت ِمـــل للصـــحة كقولـــه تعـــالى‪" :‬والله يـــرزق مـــن يشـــاء بغيـــر حســـاب “‪ ،‬فلـــو قلـــت إنـــه‬
‫ســيرزق مــن يشــاء بغيــر محاســب يحاســبه‪ ،‬أصــبت‪ ،‬ولــو قلــت لا ســائل يســأله لمــاذا يبســط‬
‫الـــرزق لهـــؤلاء ويَ ْقـــ ِد ُره علـــى هـــؤلاء‪ ،‬أصـــبت‪ .‬ومـــن عجائبـــه أيضـــا دقـــة التعبيـــر القرآنـــي‪،‬‬
‫حتــى أنــه يــؤدي المعنــى الــوافر الثــري‪ ،‬فــي اللفــظ القاصــد النقــي كقولــه – تعــالى ‪" :-‬وقيــل‬

                                          ‫يا أرض ابلعي ماءك “‪ ،‬وقوله‪" :‬ولكم في القصاص حياة "‪.‬‬

‫والقـــرآن إيجـــا ٌز كلـــه‪ ،‬فلـــيس فيـــه كلمـــةٌ زائـــدة ولا ُم ْق َحمـــة‪ ،‬ولنأخـــذ علـــى ذلـــك ِمثـــالا بقولـــه‬
‫تعـــالى‪" :‬لـــيس كمثلـــه شـــيء "‪ ،‬فـــأكثر أهـــل العلـــم ذهـــب إلـــى أن الكـــاف زائـــدة‪ ،‬ولكـــن أرى‬
‫أن هـــذا الحـــرف لـــو ســـقط لســـقطت معـــه ُدعامـــة المعنـــى ونبـــين ذلـــك فنقـــول‪ :‬إنـــه لـــو قـــال‪:‬‬
‫"لــيس مثلـــه شــيء “‪ ،‬لنفَـــي بـ ـذلك ُرتبـــة المثـ ـل المكـــاف ‪ ،‬ولكـ ـن قـــد يتسـ ـرب للـــنفس أن هنـــاك‬
‫رتبـــة تَ ِلـــي رتبـــة الألوهيـــة‪ ،‬فكـــان وضـــع هـــذا الحـــرف إقصـــاء للعـــالم عـــن المماثلـــة وعمـــا‬

                                                             ‫‪8‬‬
   4   5   6   7   8   9   10   11