Page 30 - merit 47
P. 30

‫العـدد ‪47‬‬   ‫‪28‬‬

                                                     ‫نوفمبر ‪٢٠٢2‬‬

     ‫خرير ارتطام حوافر الأثان بالأرض الصلدة‪،‬‬            ‫يمثل إحدى الأدوات التي يحتمي بها في تشكيل‬
 ‫وخلاء مقفر كبير‪ ،‬خطت فيه الطبيعة ذروة صور‬                                 ‫الهوية وإبراز عناصرها(‪.)7‬‬
‫بلاغتها القاسية‪ ،‬أفق حجري ينأى باستمرار مبد ًدا‬
                                                        ‫كما لا بد لنا من الإشارة إلى وجود ارتباط قوي‬
    ‫كل أمل في انبثاق لا متوقع لأثر حياة‪ ..‬وحدها‬      ‫بين مفهوم الثقافة ومفهوم الهوية في الفكر العربي‬
‫الجوارح في السماء السحيقة تعاود بلا كلل رق ًصا‬
  ‫دائر ًّيا محمو ًما‪ ،‬تراقبهم وتنتظر‪ ،‬لم تكن علامات‬     ‫المعاصر‪ ،‬فاختراق الثقافة هو بالأساس اختراق‬
                                                      ‫للهوية‪ ،‬ففي الثقافة وبالثقافة يدخل الفرد البشري‬
    ‫على حياة‪ ،‬كان وجودها كافيًا لتعميق إحساسه‬
‫بالخوف‪ ،‬إنهم يسيرون على حافة الموت والنور»(‪.)9‬‬          ‫في البعد الإنساني للحياة‪ ،‬وبالثقافة تتخذ حياته‬
                                                       ‫شك ًل خا ًّصا‪ ،‬فهي التي تعطيه الجذور وهي التي‬
        ‫يركز السارد في وصفه للمكان على الطابع‬         ‫تموضعه في المكان والزمان وتجعله حاملا للتراث‬
    ‫الجغرافي الوعر للطرق المتناسلة التي سيعبرها‬      ‫(‪ )..‬يستطيع بها التعرف إلى العالم والاحتفال به(‪.)8‬‬
  ‫شيمون وعائلته الصغيرة‪ ،‬رغم قساوتها وحرها‬
 ‫ووعورتها يتشبث بآخر نفس له إلى جانب زوجته‬           ‫‪ -2‬ذاكرة المكان ورحلة البحث عن‬
  ‫إيزا وهي تكابد ألم الحر والطريق‪ ،‬وهلع الخوف‬        ‫الهوية المتشظية من خلال الرواية‬
  ‫من أن يتعرض طريق رحلتهم ق َّطاع طرق‪ .‬يقول‬
                                                      ‫يعد «شيمون بلولو»‪ ،‬اليهودي المغربي‪ ،‬الشخصية‬
       ‫السارد‪« :‬لم تكن الطريق خ ًّطا مرئيًّا‪ ،‬خطته‬      ‫الأكثر انشغا ًل واحترا ًقا بسؤال الهوية في رواية‬
     ‫الحوافر والأقدام‪ ،‬بل خط وهمي مبهم يتبينه‬            ‫«زغاريد الموت»‪ .‬عندما اضطر إلى هجرة أرضه‬
  ‫الحدس والدربة وحدهما‪ ،‬ينفلت الحصى الأملس‬                ‫القاحلة‪ ،‬وبيته الحقير‪ ،‬وشجيراته العجفاء‪ ،‬في‬
     ‫أب ًدا ويطمس أثر كل من مر من هنا‪ .‬برغم أن‬            ‫جنوب البلاد‪ ،‬وانطلق في رحلة محفوفة بالموت‬
  ‫شيمون بلولو قد اجتاز بأمان نفس الطريق ست‬
   ‫مرات إلى مراكش ذها ًبا و إيا ًبا رفقة والده‪ ،‬فإن‬   ‫من كل جانب‪ ،‬رفقة زوجته «إيزا» وابنهما «إسو»‪،‬‬
‫مخاوفه كانت تغلي في صدره‪ ،‬وتسد نفسه‪ ،‬وتلقي‬               ‫قاص ًدا مدينة مكناس‪ ،‬بحثًا عن قليل من القوت‬
  ‫بماء الوهن في ركبتيه‪ .‬كان اليقين الذي سنده في‬
  ‫اليومين الأولين يتبدد تدريجيًّا‪ ،‬قال لنفسه حين‬       ‫يسد الرمق‪ ،‬لم يفعل ذلك إلا مضط ًّرا وكار ًها‪ ،‬لأن‬
    ‫أجمعوا أمرهم فج ًرا‪ :‬لا يمكنك أن تنسى معالم‬        ‫الأرض والشجيرات والبيت كانت تشكل بالنسبة‬
      ‫طريق مشيت فيها خائ ًفا‪ .‬ولم يعد قاد ًرا على‬    ‫إليه هويته التي يذوي إن فارقها‪ ،‬ولا يحيا بعدها إلا‬
  ‫تثبيت عينه في عيني إيزا‪ .‬كان يشيح بوجهه كلما‬
    ‫استدارت نحوه في ركوبها المعذب فوق الأتان‪،‬‬                                  ‫على أمل أن يعود إليها‪.‬‬
‫فيتأجج عذابه‪ :‬مهما حاول ليس بمقدوره أن يتأكد‬              ‫يتحدد من خلال رواية «زغاريد الموت» تشكل‬
                                                       ‫الفضاء المكاني للرواية والبيئة الطبوغرافية لمسار‬
                    ‫بأنه داس الحصى عينه»(‪.)10‬‬         ‫رحلة شيمون وعائلته‪ ،‬من قريته التي مثلت جذور‬
    ‫يزداد حنين «شيمون» للقرية في كل مرة‪ ،‬كلما‬         ‫هويته وحياته التي عاش فيها بما تحمله من دلالة‬
    ‫امتدت به المسافات بعي ًدا عن فضاء قريته التي‬       ‫رمزية‪ ،‬وتعلق وحنين وألم الرحيل والهجرة بحثًا‬
   ‫تركها‪ ،‬فيبدو أثرها قو ًّيا على نفسيته‪ ،‬وعلى إيزا‬        ‫عن بلاد جديدة للعيش‪ ،‬وتوفير حياة كريمة‪،‬‬
    ‫أي ًضا التي ارتبطت بالبيت الذي حفظ ذكرياتها‬         ‫فشكلت المقاطع الوصفية مرك ًزا أساسيًّا ليصف‬
 ‫الجميلة‪ ،‬فيزداد إصرارها في كل مرة على الحديث‬            ‫الكاتب من خلالها قرية العائلة اليهودية قبل أن‬
 ‫عن العودة إلى القرية التي تركوها‪ ،‬فتحاول في كل‬            ‫تشق رحلتها في سرمدية الصحاري والجبال‬
‫فرصة الحديث عن موعد الرجوع‪ ،‬لكن تعود بخيبة‬            ‫الوعرة‪ ،‬هر ًبا من واقع مقفر ممتلئ بالجوع والحر‬

                              ‫جواب في كل مرة‪.‬‬                               ‫والفقر‪ ،‬والحزن والضياع‪.‬‬
 ‫أضحت ذاكرة إيزا محملة بثقل المكان الذي تحمله‬         ‫يقول السارد‪« :‬قربة ماء‪ ،‬حفنتا تمر وتين مجفف‪،‬‬
‫في داخلها عبر رحلة تخوضها مرغمة عليها لتوفير‬          ‫كيس شعير حائل‪ ،‬بضعة جوازات وصرة صغيرة‬
                                                      ‫بها عشرون ريا ًل محشوة داخل بسيسة محروقة‪،‬‬
   25   26   27   28   29   30   31   32   33   34   35