Page 32 - merit 47
P. 32
العـدد 47 30
نوفمبر ٢٠٢2
بينهما ،كان بن دودو يقول« :التاريخ لا يصنع بالشيخ الحكيم دودو اليهودي« :كان يجادل
بالحنين وحده»(.)18 شيمون بوقار في أمور كثيرة ويفحمه ،في أمر أولئك
الزائرين المتشحين بالسواد الذين يأتون في صورة
لا يستطيع أن يتنكر لهذه الأرض لأن أسلافه جزء
من ترابها ،ولأنها مهد طفولته وصباه وحياته كلها أحبار وتجار وعابري سبيل وأهل وأقارب .يأتون
بالأخبار الخاسفة والعظات ،يزلزلون الأرض تحت
بم ِّرها وحلوها ،فهي تحفظ هويته ،لكنه أي ًضا لا أقدام مح ِّدثيهم ويمضون ،وحين يعودون يرعون
يستطيع أن ينكر أن أصوات أولئك الغرباء ،وهي بذرة الرعب التي زرعوها في القلوب ويؤججونها،
تمجد أورشاليم ،وتبشر بحياة العز والسعادة في
«جيروزاليم» ،تعزف على وتر خفي وعميق ،يقود يصفون ببلاغة متمكنة جهنم التي يعيش فيها
ذلك الصراع الداخلي شيمون إلى انشطار في الذات محدثوهم وإن كانوا لا يملكون رهافة الإحساس
وانفصام في الشخصية وقلق في الهوية وانشطارها، بها .يجب أن تكونوا حذرين( .كانوا يوصون في
فيقول أشياء لا يسلِّم بها ،ويدافع عن مواقف لا مواعظهم) لم يعد بينكم وبين أورشاليم أكثر م َّما
يطمئن إليها ،كأنما هناك ذات أخرى تتملك ذاته: فات ..آه ،أورشاليم ع َّما قريب ستصير لنا دولة ،لنا
«كان هناك شيء قابع بداخله ،غامض وموارب، وحدنا ،شامخين ،أحرا ًرا .نحن نق ِّدر نفاد صبركم
يدفعه لقول كلمات لم يقصدها ،وإلى الدفاع عن
مواقف يغ ُّمه ويقلقه مجرد التفكير فيها .كان الأمر العميق .لكن انتظروا»(.)15
يتعدى مجرد اليقين بأن الكلام الذي تف َّوه به غريب بذلك شكلت (أورشاليم) ،المكان الموعود الذي يشد
عنه ،إلى الإحساس بأن الحركات العصبية التي إليه اليهود الرحال من كل جهة ليعبر عن الهوية
يقوم بها ،خبط الكف بالكف ،وسحق الحروف بين الثقافية باعتباره «الكيان الاجتماعي الذي يحتوي
على خلاصة التفاعل ببين الإنسان ومجتمعه ،لذا
الأسنان قبل النطق بها وتصلب تقاسيم الوجه.. شأنه شأن أي إنتاج اجتماعي آخر يحل جز ًءا من
تصدر عن ذات أخرى تتملكه وتغلف ذاته الحقيقية
أخلاقية وأفكار ووعي ساكنيه»(.)16
بالصمت»(.)19 كان كلامهم يزرع القلق والتردد في عقل «شيمون»
وعندما عاد إلى أرضه ،زائ ًرا قريته الصغيرة التي
هجرها منذ أكثر من ثلاثين سنة قضاها في مدينة وروحه؛ فمن جهة كان لا يفهم كيف ينكرون
صلتهم بهذه الأرض التي احتضنتهم وأسلا َفهم
«بني م َّلل» ،وجد أطلال بيتهم القديم ،والمقبرة
التي تحضن الآباء والأجداد ،والأهل والجيران منذ أزمان تمتد في أعماق التاريخ السحيق،
بحكاياتهم وحكايات من ماتوا أو رحلوا ،لكنه وجد ويجحدون أمومتها وهم يلحون على الدعوة
أي ًضا أصوات أولئك المب ِّشرين بالرحيل إلى الأرض إلى هجرها والرحيل عنها؛ «كان يخرج من تلك
المقدسة من دعاة الصهيونية قد سبقته إلى هناك، الاجتماعات ضائ ًعا يعتصر قلبه غ ٌّم لا حدود له.
يقول السارد« :من بعيد بدت الدور متفسخة ينهبها يتذوق عذوبة ارتطام خطواته بالأرض ويع ُّب الهواء
الحر والنسيان ،كل الأشجار التي كانت تخفف بشراهة ثم يعود لعذابه « ِ َل يكرهون الأرض كل
من وحشة ضاعت في قدر زوال غامض .من بعيد كرهَ ِ ،ل؟»( ،)17لكنه ،في المقابل ،كانت تنهشه هواجس
لم يريا الدار التي خلفاها وراءهما لكنهما استحثَّا أخرى ،تمتد في أعماق الروح وتحفر داخل الذاكرة
خطاهما اتجاهها ..أمام بقايا جدران توشك أن الجماعية للهوية ،فكان لا يجد ب ًّدا من أن ُيعلنها
تضيع في الأرض .لم يقدرا على إمساك دموعهما.. ويكررها في وجه صديقه «بن دودو» الذي وجد
وحدها معجزة يمكنها أن تبقي لهما الدار قائمة، عنده أسئلته الملغزة حول قلق الهوية الذي يعتريه،
منيعة ومسورة بالصمت والانتظار الذي لا ينفذ.. الذي يمثل بالنسبة إليه صوت الضمير والعقل
استمعوا لحكايات من مات ،ومن رحل ،ومن بقي، المتّزن؛ كان «يسأله باتهام« :ألا تحب جيروزاليم؟»
فير ُّد بن دودو بهدوء ور َّقة لا حدود لها :لسنا
ووسط دموع وشكاوى ما تبقى من جاراتها وحدنا الذين نحبها ،يجب أن لا نكون قساة ولا
القديمات ،نف َّست إيزا عن أحزانها ،وكانت تخرج أنانيين ،وفي ختام كل المحاورات المضنية التي دارت