Page 31 - merit 47
P. 31

‫‪29‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

   ‫السلام والأشواق الملتاعة‪ ،‬ويعترض الريح التي‬               ‫لقمة العيش‪ ،‬فتأتي مقاطع الوصف ممتزجة‬
                              ‫تهب من هناك»(‪.)12‬‬               ‫بالسرد‪ ،‬مما يضفي على هذه المقاطع حركة‬
                                                         ‫ودينامية‪ ،‬ومن الصور المكانية الحية التي حملت‬
 ‫وقد أقام الناقد جاستون باشلار علاقة بين المكان‬        ‫بين ثناياها تألم وحزن شيمون وزوجته إيزا وهما‬
  ‫والإنسان الذي يعيش فيه بقوله‪« :‬إن المكان الذي‬           ‫في لحظة توديع البيت الذي احتضنهما‪ ،‬وارتبط‬
‫ينجذب نحو الخيال لا يمكن أن يبقى مكا ًنا لا مباليًا‬
  ‫ذا أبعاد هندسية وحسب‪ ،‬فهو مكان قد عاش فيه‬                           ‫بالهوية الثقافية والوطنية للانتماء‪.‬‬
                                                             ‫يقول السارد‪« :‬لم يكن البيت‪ ،‬والجدار يعلو‪،‬‬
    ‫بشر ليس بشكل موضوعي فقط‪ ،‬بل بكل ما في‬                   ‫يستحيل في عيني إيزا إلى كتلة صماء محايدة‬
                            ‫الخيال من تميز»(‪.)13‬‬            ‫وغريبة فقط‪ ،‬بل كان الزمن ومن خلاله أي ًضا‬

     ‫إن البيت الأول والأرض والشجيرات والقرية‪،‬‬                  ‫يتوارى أمام عينيها‪ ،‬كان كل ماضيها فيه‪،‬‬
    ‫تقوم مقام حضن الأم الآمن حيث س ّر التكوين‬              ‫ولحظات سعادتها النادرة تذوب في كتل الطين‬
‫ودفء النشأة‪ ،‬حيث الناس سواسية ولو في البؤس‬                ‫اللزجة وتضيع‪ ،‬لم يكن شيمون يبني جدا ًرا‪ ،‬بل‬
   ‫والحرمان‪ ،‬أما الخروج منها فارتماء بين مخالب‬          ‫ينمي نقطة اللاعودة‪ ،‬ويبدد حلم التراجع‪ ..‬وحين‬
‫المجهول ود َّوامات الضياع‪ ،‬واقتحام لمجال «الآخر»‪،‬‬      ‫اختفى الباب تما ًما كما اختفت أشياء البيت‪ ،‬ومهما‬
    ‫حيث تسود الصور السلبية والأحكام الجاهزة؛‬             ‫تجلدت‪ ،‬تساقطت دموعها فوق وجه إسو فصحا‬
   ‫يضطر شيمون وزوجته‪ ،‬تجنبًا لمخاطر الطريق‪،‬‬                ‫وأخذ يبكي‪ ،‬هناك قرب شجيرات اللوز العشر‪،‬‬
   ‫في مغرب النصف الأول من القرن العشرين‪ ،‬إلى‬               ‫التي ورثها عن أمه‪ ،‬اجتاحته كل المرارات التي‬
‫إخفاء يهود َّيتهما‪« :‬يكون عليها أن تتثلم وتحكم قب‬      ‫اعتصرت قلب إيزا‪ ،‬وعرف كل عذاب التردد‪ ،‬جدار‬
‫الجلباب حول شعرها المحلول‪ ..‬لضمان التباس عين‬              ‫الطين وراءه طر ًّيا وقاب ًل للتفتت مع أول ضربة‬
 ‫تراقب من بعيد‪ ..‬ولقد قيل لشيمون أن يفعل ذلك‪،‬‬          ‫يد‪ ،‬والطريق أمامه يكتنف خلاصه الموعود فيه كل‬
‫لأن قطاع الطرق يحسبون كل يهودي تاج ًرا يخفي‬                ‫المخاطر والأهوال‪ ،‬وض ًّدا على قلبه الذي اشتعل‬
                                                        ‫بحنين قوي وآسر أسلم خطواته للمجهول‪ ،‬وإيزا‬
               ‫تحته كنو ًزا من اللويز والنقرة»(‪.)14‬‬
         ‫بذلك فالمكان يحضر كذاكرة يتم تكريسها‬                ‫تلتفت لتخزن كل الصور‪ :‬بيت الطين الأحمر‬
  ‫واستعادتها كخلفية للسرد‪ ،‬معبرة عن روح هوية‬              ‫المسور بصمت يتعذر اختراقه‪ ،‬وحوش الصبار‪،‬‬
     ‫المكان‪ ،‬فشكل هذا الأخير راف ًدا أساسيًّا لعملية‬   ‫الطريق الوعرة إلى العين‪ ،‬شجرة الخروب الوارفة‪،‬‬
   ‫التخيل السردي في الرواية‪ ،‬بعد تشعب مسارات‬           ‫الأماكن الصغيرة العاجة بالذكريات‪ ،‬الألفة اليومية‪،‬‬
 ‫السرد ستأخذ شخصية شيمون وزوجته إلى آفاق‬                ‫خصومات مع الجارات‪ ،‬بوح وشكاوي يومية عن‬
‫جديدة‪ ،‬وتنفتح أمامهما أبواب الثروة ورغد الحياة‪،‬‬           ‫الصحة والزوج والأولاد والعين والحسود»(‪.)11‬‬
 ‫إلا أن هاجس العودة إلى أرضهما في تلك الأصقاع‬             ‫كما ارتبط البيت بحنين واشتياق‪ ،‬لذلك خزن في‬
    ‫النائية البائسة لن يفارقهما أب ًدا‪ ،‬غير أن الهوية‬    ‫ذاكرة شيمون أثر عظيم عرف بعده معنى الغربة‬
     ‫بالنسبة إلى يهودي مغربي يعيش في منتصف‬
  ‫القرن العشرين لم تعد مسألة محسومة ومسلَّمة‬                ‫والمنفى‪ ،‬فأصبح يسأل الطير ويقرؤه السلام‬
      ‫مثلما كان الحال في الماضي‪ ،‬ومثلما هو الأمر‬         ‫لموطنه الذي غادره‪ ،‬فاشتعلت نيران الحنين حتى‬
   ‫بالنسبة إلى كل إنسان يعيش فوق أرض أجداده‬
                                                           ‫شاركته عناصر الطبيعة حنينه وغربته‪ ،‬يتمثل‬
                ‫وآبائه‪ ،‬بين أهله وجيرانه وقومه‪.‬‬         ‫ذلك بجلاء من خلال قول السارد‪« :‬يسر له التين‬
‫لقد أصبحت الهوية مصدر قلق وصراع‪ ،‬لأن هناك‬              ‫الشوكي بكائية الغربة‪ ،‬ويتفهم نواح الماعز وبياض‬

   ‫من يشكك في هذه الهوية‪ ،‬ويل ُّح في دفع شيمون‪،‬‬           ‫الاستسلام الذي يرفعه اللوز بعد طول مكابدة‪،‬‬
     ‫وغيره من اليهود المغاربة‪ ،‬إلى إنكارها والتعلق‬         ‫ترى جسمه بأرض‪ ،‬لكن فؤاده ومالكه بأرض‬
   ‫بهوية أخرى‪ ،‬ترتبط بأرض بعيدة لكنها مقدسة‬                 ‫أخرى‪ .‬كانت كل الأشياء تذكره بالدوار تطفح‬
                                                          ‫بمرارة النفي‪ ،‬يقرئ الطيور التي تقصد الجنوب‬
‫«أورشاليم»! يقول السارد متحد ًثا عن لقاء شيمون‬
   26   27   28   29   30   31   32   33   34   35   36