Page 34 - merit 47
P. 34

‫العـدد ‪47‬‬   ‫‪32‬‬

                                                     ‫نوفمبر ‪٢٠٢2‬‬

  ‫يتوقع وجود عدو خفي يتجند له بالمرصاد داخل‬           ‫بنادق بوحبة الطويلة تتدلى من فتحات أبراج سور‬
  ‫مستنقعات عديدة تمثل في جيوش الناموس الذي‬              ‫المدينة‪ ،‬وابتسم‪ ،‬هو ذا عدوه كما يشتهيه‪ ،‬مرئيًّا‬
                                                         ‫وثابتًا‪ ،‬وقال لمقربيه إنه يحب الوضوح حتى في‬
    ‫مثل أكبر مساند (للأنا) للمقاومة الوطنية ضد‬
                     ‫المستعمر الفرنسي (الأخر)‪.‬‬       ‫الحرب‪ ،‬وإن ما خاضوه قرب دار ولد زيدوح كانت‬
                                                     ‫حر ًبا بهيمية لا شكل لها ولا طعم‪ ،‬إلا طعم القسوة‬
‫يقول السارد مبر ًزا ما حل بالكولونيل الذي أصبح‬        ‫المجردة من السمو الإنساني‪ .‬تحركت الحملة‪ ،‬كان‬
  ‫أضحوكة بين جنوده بعد الهجمة الشرسة لخلية‬
  ‫النحل العالقة به‪« :‬وعلى نحو ما توقع الكولونيل‪،‬‬        ‫بمقدور الكولونيل أن يتبين أن الخط الذي تسير‬
                                                                                  ‫فيه غير سالك»(‪.)22‬‬
‫وكإمعان في تعذيب وإذلال الحملة الهائمة‪ ،‬تسربت‬
  ‫الشمس من بين فتحات سربل الضباب الشفاف‬               ‫يقول السارد مرة أخرى وهو يصف ما وقع خلال‬
                                                         ‫معركة غابت فيها كل عدالة بين الطرفين‪« :‬لكنه‬
‫الذي كان يضاعف الصهد‪ ،‬ولكنه يقي من ضربات‬                 ‫كان مأخو ًذا بتلك النقطة البيضاء الملتبسة التي‬
‫الشمس المركزة واللافحة‪ .‬لم يكن بمقدوره رؤيتها‬           ‫ستمنحه مرك ًزا حاس ًما لتطويع سهل تادلة كله‪.‬‬

  ‫مع غشاوة الناموس المنيعة‪ .‬غير أنه أحس بها في‬        ‫وهو يفكر بالأمر‪ ،‬داهمتهم أمواج الناموس الكثيفة‬
    ‫مؤخرة رأسه ثقيلة نارية وكأنها تستهدفه هو‬             ‫الرمادية التي كانت هاجعة فوق أعواد السمار‪،‬‬
    ‫بالأساس‪ .‬وحين أخرج منديله الأبيض ومسح‬
   ‫العرق ودهس في الطريق آلا ًفا من الناموس‪ ،‬ثم‬         ‫فسدت الأفق كالضبابة العوراء‪ ،‬وفككت انتظامية‬
    ‫حركه في الفراغ الراكد ليجلب هوا ًء طر ًّيا‪ ،‬كان‬  ‫وتلاحم الحملة‪ ،‬انشغل الذين كانوا يحركون المدافع‬

‫بمقدور أعضاء الفرقة الميكانيكية‪ ،‬وبغال المؤونة أن‬         ‫والعربات والبغال بدفع ضربات الناموس عن‬
‫يروا من الخلف إن أمكنهم ذلك‪ ،‬مؤخرة الكولونيل‬           ‫وجوههم‪ ،‬وفي المقدمة كان الكوم الذين لم يعودوا‬
  ‫المبللة بالعرق والمطرزة بالناموس وهو يقف فوق‬          ‫يمدون بنادقهم في الفراغ‪ ،‬فألقوها فوق أكتافهم‬
                                                        ‫بلا اكتراث‪ ،‬يغطسون في الماء الموحل حتى تجتاز‬
    ‫العربة ليستطلع في يأس مصير الحملة‪ ،‬عندما‬
    ‫جلس‪ ،‬كان قد أيقن بأنها قد استحالت سلسلة‬               ‫رؤوسهم أسراب الناموس‪ ،‬ثم يعاودون الكرة‬
 ‫من العميان الضائعين‪ ،‬كبحار تحطمت سفينته في‬            ‫من جديد‪ .‬حاول الكولونيل أن يصرخ فيهم‪ ،‬لكن‬
‫أعماق بحر لجي‪ ،‬وبدون حتى القدرة على الصياح‪،‬‬           ‫الناموس هم بملء فمه‪ ،‬فخرج صوته مكتو ًما كأنه‬
                                                     ‫يكابد ألمًا مزمنًا‪ .‬تابع برؤية مشوشة‪ ،‬وبكل صخب‬
                    ‫تمسك بآخر بصيص أمل(‪.)24‬‬
     ‫كان المصير المحتوم للقائد بالخيبة والخسارة‬           ‫قلبه‪ ،‬الخزي الذي يلحقه السود الذين اعتادوا‬
‫السحيقة التي لم يتخيل أن تحدث له يقول السارد‪:‬‬        ‫العري‪ ،‬بزي فرنسا العسكري‪ .‬اشتد الصهد‪ ،‬وصار‬
      ‫«انتهى الأمر بالكولونيل محمو ًل فوق محفة‬
 ‫مرتجلة‪ .‬ينوء تحت ثقلها أربعة جنود سود‪ ،‬بينما‬           ‫الجنود هشيم نار بيضاء غير مرئية‪ ،‬نار فوارة‪،‬‬
   ‫انهمك آخرون في هش الناموس عن وجهه‪)..( ،‬‬             ‫انطمست الحملة في رمادها‪ .‬وأخذت عيون العرق‬
‫فلا يستطيع أن يكمل شهيقه لئلا يوصل الناموس‬
 ‫إلى داخل صدره وعينيه اللتين سدهما نهائيًّا‪ .‬ولما‬        ‫التي تفجرت في صدغي الكولونيل تدحرج معه‬
‫أحس الكولونيل رغم تحوطه الشديد في إحكام ربط‬          ‫كميات من الناموس‪ .‬كانت الحملة تراوح في مكانها‬
 ‫حزام سرواله وزر قميصه جي ًدا‪ ،‬بالناموس يصل‬
   ‫أمعاءه (‪ )..‬بعينين مغمضتين وبحروف يحاكي‬             ‫منذ ساعات‪ ،‬وآلمه أشد الألم أنه في اللحظات التي‬
 ‫الناموس نفسه في ضآلته وتشتته‪ ،‬ويلقي بأوامره‬                       ‫أصبح فيها تحت رحمة عدوه‪.)23(»..‬‬

          ‫إلى أيدي القريبين منه‪ ،‬وإلى الماء الموحل‪:‬‬       ‫بطريقة ساخرة وهزلية واصل السارد وصفه‬
   ‫‪« -‬قولوا للقردة أن يكفوا عن اللعب‪ ،‬وليشهروا‬         ‫للقائد الفرنسي الذي كان موقنًا بنصره وقبضته‬
                                                        ‫الحديدية على قصبة بني ملال بعد تخطيط عميق‬
                                      ‫بنادقهم»‪.‬‬
        ‫‪« -‬انقدوا المدافع‪ ،‬حتى ولو ضاع الباقي»‪.‬‬          ‫ودراسة مستفيضة لبيئة المعركة‪ ،‬ومعرفة نقط‬
                                                       ‫ضعف العدو وقوته‪ ،‬والتأكد من نجاحه هذه المرة‬

                                                        ‫بعد سلسلة إخفاقاته المتواصلة في حصار مدينة‬
                                                         ‫بني ملال وتحطيم وحدة المقاومة وتفريقها‪ ،‬لم‬
   29   30   31   32   33   34   35   36   37   38   39