Page 76 - merit 47
P. 76

‫العـدد ‪47‬‬   ‫‪74‬‬

                                                        ‫نوفمبر ‪٢٠٢2‬‬

 ‫بمنتهى السهولة واليسر‪ ..‬بعدما شفيت عد ُت أمضي‬          ‫رأيت الكلبة هنا أكثر من مرة‪ .‬كنت أفتح عين َّي لبعض‬
 ‫في الشوارع بحرية‪ ..‬لا ألم ولا عجز عن المشي لكني‬          ‫الثواني فألمحها وهي تهز ذيلها كعادتها حين تشعر‬
 ‫رأيت الشوارع والناس والبنايات محبوسين كلهم في‬                                ‫بالراحة أو بالرغبة في اللعب‪.‬‬
‫غرف موازية‪ .‬كل العالم محبوس وممنوع من الحركة‬             ‫بعدما طالت مدة إقامتي في تلك الغرفة المصمتة‪ ،‬التي‬
  ‫وأنا الوحيدة التي تعافر لكي تتحرك كما أعافر الآن‬           ‫أضنيت نفسي بحثًا فيها عن أية ثقوب موجودة‬
‫في مساحة الغرفة المصمته‪ ..‬أحاول الهروب من حقيقة‬          ‫دون جدوى‪ .‬لا شيء في المكان‪ .‬مجرد أرض وسقف‬

     ‫كوني موجودة‪ .‬لكن كيف ولا أحد سواي داخل‬             ‫وأربعة جدران غير قابلة لأي إحلال أو تبدل‪ .‬لا توجد‬
 ‫المكان؟ كيف وأنا أتدفق أمامي عبر الزمن؟ أتوالد من‬         ‫ساعة حائط‪ .‬لا زمن‪ ،‬ولا عقارب أو أرقام‪ ..‬الزمن‬
 ‫أنسجة الحوائط الحية المطلية باللون الوردي‪ ..‬وكأن‬
‫حيا ًة ما كانت تدب فيها‪ ..‬ألحظ برو ًزا في أماكن أظنها‬    ‫مصمت بلا ثقوب تسمح لأحد بالخروج أو الدخول‪.‬‬
‫لعروق نافرة‪ ..‬أرى ندبات واضحة وكبيرة‪ ..‬أتحسس‬             ‫حتى حيلي الأولى في محاولات تخفيف الألم بالألم لم‬
  ‫الندبات‪ ..‬أشعر بحميمية ما‪ ..‬تتحول الجدران فجأة‬        ‫ُت ْج ِد نف ًعا‪ .‬الندوب والدوائر والخطوط الوردية الرفيعة‬
 ‫لمجموعة من الأنسجة الحية‪ ..‬أتمنى لو أملك سكينًا‪..‬‬       ‫التي نقشتها على أجزاء متباعدة من الجسد لم تحرك‬
‫لأهوي به على كل تلك الأنسجة‪ ..‬أمزقها يمينًا ويسا ًرا‬
 ‫علَّني أجد المخرج‪ .‬أتشبث بفكرة السكين كأم ٍل بعيد‪،‬‬        ‫الألم الحقيقي قيد أنملة‪ .‬لا شيء قابل للحركة ولا‬
                                                                                         ‫حتى في الخيال‪.‬‬
     ‫كضوء شاحب لا يسمح الجدار بدخوله‪ ..‬أشعر‬
   ‫بهواء رطب يمر إلى رأسي وبقطرات أشبه بأمطار‬             ‫منذ زمن بعيد وأنا أؤمن بالثقوب والجدران‪ .‬أعرف‬
   ‫داخلية‪ ..‬تمضي من أعلى الرأس إلى أسفلها قبل أن‬           ‫أن جدا ًرا واح ًدا حفظ ميرا ًثا لأخوين يتيمين‪ .‬وثقبًا‬
   ‫تتكثف وتعاود النزول من جديد وكأن انفراجة ما‬
  ‫على وشك الحدوث‪ ..‬انفراج ًة توسع مكا ًنا في رأسي‬            ‫واح ًدا في سفينة جعلها السفينة الوحيدة الناجية‬
   ‫لتحريك الخيال‪ ..‬لكن لا شيء يحدث‪ ..‬ينقطع المطر‬           ‫في الحكاية‪ ..‬أنا أفضل النجاة عن الكنز‪ ..‬ربما لهذا‬
  ‫قبل أن يخرج حقيقيًّا من الرأس‪ ..‬فألجأ للبحث عن‬           ‫قدس ُت الثقوب‪ .‬أدرك ُت مدى أهميتها‪ .‬صرت أفتش‬
    ‫حلول أشد قوة‪ .‬كأن أتمنى انهيا ًرا كام ًل للعالم‪..‬‬   ‫عنها طوال الوقت علَّني أنجو رغم كل مسببات الغرق‪.‬‬
  ‫وقتها سأضمن انهيار تلك الغرفة المغلقة‪ ..‬ستتشقق‬         ‫جسدي واه ٌن ومصمت أي ًضا‪ .‬لا أثر لأية ثقوب رغم‬
‫تلك الجدران والأرض أي ًضا‪ ،‬سيمتليء العالم بالموتى‪..‬‬         ‫الهشاشة‪ .‬لا مجال لرحلة هروب داخلية‪ ..‬الخيال‬
                                                           ‫أضيق من ثقب إبرة‪ ،‬لا يسمح بمرور طرف الخيط‬
      ‫الموتى سيدهسون الأحياء كي يموتوا ويقوموا‬          ‫الذي يتفتت في كل محاولة إدخال لعدة خيوط فرعية‪.‬‬
     ‫ليدهسوا بدورهم أي أحياء آخرين‪ ..‬هنا فقط قد‬         ‫فيتشعب الخيط ويزداد حج ًما أمام الثقب الذي يرتبك‬
 ‫تنصلح العلة‪ ،‬وتعود النواميس المعهودة للعمل بنفس‬         ‫غير سامح بالمرور الكامل‪ .‬ذكرني الأمر بأيام بعيدة‬
‫نظامها السابق وأتمكن من إحلال روحي في أي مكان‬             ‫عجزت وقتها عن المشي‪ ..‬كنت حبيسة فعلية لغرفة‬
                                                         ‫شبيهة‪ ..‬لا أتحمل المشي لخطوتين‪ .‬قبل أن تداهمني‬
                ‫آخر وبعيد خارج حدود هذا العالم‪.‬‬         ‫نوبات الألم الشرسة من أثر جلطات متفرقة في الساق‬
 ‫يأخذني عقلي لآخر ليلة قضيتها في منزلي‪ ..‬للأحداث‬          ‫بعد ولادتي لطفلي الثاني‪ ..‬كنت أحفظ وقتها مواعيد‬
                                                            ‫الأطباء وأحسب الوقت الفاصل ما بين كل زيارة‬
    ‫الأخيرة التي مرت ليلتها‪ ،‬ولسنوات عديدة قبلها‪،‬‬         ‫وأخرى بالأيام والساعات‪ ..‬رغم المجهود المبذول في‬
    ‫لكنها مرتبطة بالمشهد الأخير كسلسلة لا يجب أن‬          ‫نزول الدرج وصعوده‪ ..‬لكن فرحتي برؤية الشارع‬
    ‫تنفك عن بعضها البعض‪ .‬ابتدأ الكابوس في اليوم‬           ‫وتنفس الهواء المتحرك حول الناس من ثقب سيارة‬
 ‫الذي جئنا فيه بكلب جديد لإنعاش حياة الكلبة‪ .‬كانت‬
  ‫أمورهما تبدو بخير لنا جمي ًعا‪ .‬لم نلحظ أب ًدا نفورها‬       ‫ألهاني عن الوجع‪ .‬غرفتي نفسها امتلأت في ذاك‬
   ‫منه‪ ،‬مما أعطانا شعو ًرا مغلو ًطا بالتوافق‪ .‬لم ننتبه‬      ‫الوقت بالثقوب‪ ،‬كنت أدخل وأخرج طوال الوقت‪.‬‬
     ‫للمرات التي شدها فيها بالغصب إليه ولا انتبهنا‬         ‫أنفذ من ساعات الحائط وساعات اليد أو حتى من‬
‫للجروح التي كانت تحفرها أنيابه في رقبتها حين كان‬         ‫الأرقام المتحركة على شاشة الهاتف‪ .‬وقتها كل شيء‬
                                                        ‫كان قاب ًل للإحلال والتبدل‪ ..‬أخرج من جسد إلى آخر‬
   71   72   73   74   75   76   77   78   79   80   81