Page 89 - merit 47
P. 89

‫‪87‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

                             ‫يوسرى البرجيجي‬

                                                ‫(المغرب)‬

                   ‫سباحة في الأوان‬

     ‫حينما ربحت إحدى المعارك وأثب ُّت فيها قوتي‪،‬‬          ‫الصباح بار ٌد وحزين‪ ،‬والشمس بالكاد تتضح‬
             ‫ولكني خسرت نفسي للأبد فيما بعد‪.‬‬             ‫خيوطها‪ ،‬وتنعكس على الأرض‪ ،‬وكل شي ٍء يشي‬

    ‫ما كنت أحبه في هذا الفرنسي العاشق هو تعلقه‬                       ‫بالخسار ِة‪ ،‬الخسارة التي تليق بي‪.‬‬
‫الشديد بالفن‪ ،‬آه كم كان يحب الشعر العربي‪ ،‬فنحن‬          ‫أن أخسر نفسي‪ ،‬والحب‪ ،‬والصداقة‪ ،‬والطمأنينة‪،‬‬

     ‫كلما التقينا‪ ،‬ألقى في حضرتي أبيا ًتا من الشعر‬          ‫والأمان‪ ،‬وعشاقي‪ ،‬والشغل‪ ،‬وضوء الشمس‪،‬‬
     ‫الغزلي الجاهلي‪ ،‬وكم أسعده صوت فيروز وأم‬                                           ‫وصوت المطر‪..‬‬
   ‫كلثوم‪ ،‬كان يشعرني دائ ًما بأمان هويتي العربية‬
  ‫معه‪ ،‬ولكن أكثر ما شدني إليه هو خبله بفن نحت‬         ‫أحيا ًنا‪ ،‬ينبغي علينا أن نخسر كي نرتاح‪ ،‬في المقابل‪،‬‬
   ‫الأجساد العارية‪ ،‬إنه أكثر من مجنون بهذا الفن‪.‬‬     ‫ربحنا معارك كان من المفترض أن لا نهلك أنفسنا في‬
‫تفاجأت أول مرة حينما دعاني إلى بيته‪ ،‬وبينما كان‬
     ‫يجول بي في أرجاء بيته‪ ،‬غرقت عيني في جمال‬         ‫سبيل النجاح فيها‪ ،‬والوقت قد يفر مني‪ ،‬كما تهرب‬
 ‫الفناء‪ ،‬لقد كان مكت ًّظا بالأجساد المنحوتة‪ ،‬متراصة‬    ‫حبات الرمل من يد الإنسان‪ ،‬وأنا أي ًضا أنسلت من‬
‫مع بعضها البعض في شكل فوضوي‪ ،‬ملونة بألوان‬            ‫إحصاءاته البطيئة لكل الدقائق المأساوية‪ ..‬لا أفكر إلا‬
    ‫مشعة مفعمة بالحيوية‪ ،‬فتظن للوهلة الأولى أنك‬       ‫في قضاء هذا اليوم الأخير سعيدة‪ ،‬ولو على حساب‬
   ‫تتجول في سوق حريم للنساء العاريات الفاتنات؛‬
‫وقبل أن أستفيق من هذه الدهشة كان قد أدخلني في‬                                            ‫كآبة السماء‪.‬‬
 ‫جنون من نوع آخر‪ ،‬حيث إني لم أن َس تلك النشوة‬          ‫أنهض من فراشي مرهقة للحد الذي لا يطاق‪ ،‬آخذ‬
     ‫التي شعرت بها لحد الساعة‪ ،‬فنحن كلما أردنا‬
    ‫ممارسة الحب قام بطقس جنوني يعنيه لوحده‪،‬‬               ‫حما ًما ساخنًا مليئًا بورود البابونج‪ ،‬وقلي ًل من‬
    ‫فحينما تسقط ثيابنا ويتمرد عرينا على الوجود‪،‬‬       ‫قطرات عطر الخزامى‪ ،‬أرخي جسمي في الماء كقشة‬
   ‫يجلب فرشاة رسم وألوان صباغية كثيرة فاقعة‪.‬‬
                                                                        ‫عشب تطفو بخفتها فوق النهر‪.‬‬
       ‫وبعد مدة طويلة من التأمل في عريي‪ ،‬وحيث‬         ‫أصنع شا ًيا أخضر بنفسي اليوم‪ ،‬وأضع القليل من‬
   ‫جسده بدأ يغلي بالحرارة ويتصبب عر ًقا‪ ،‬وثغره‬
 ‫يسيل لعا ًبا كجائع مشتاق للطعام ‪-‬كم أحب العري‬           ‫الحلوى في طبق‪ ،‬فلقد منحت خادمتي عطلة لمدى‬
    ‫في الأجساد النسائية‪ ،-‬يتعب وينتقل إلى اللحظة‬      ‫الحياة‪ ،‬أريد أن أعيش هذا اليوم الأخير مع وحدتي‬

      ‫الجنونية‪ ،‬يبدأ بتلوين جسدي‪ ،‬قبل أن يلتحما‬           ‫‪-‬يكفي أن تشهد لنفسك على مأساتك‪ -‬فطوري‬
  ‫جسدينا م ًعا في النشوة‪ ،‬يلون كل شبر في جسمي‬            ‫اليوم مختلف عن كل الأيام التي مضت‪ ،‬أنا التي‬
   ‫كله دام ًجا الألوان بتمرير يديه في كل مكان‪ ،‬تلك‬   ‫ألفت الموسيقى كل صباح‪ ،‬أعيش لحظاتي الأخيرة في‬
   ‫اللحظة بالذات كانت كفيلة بأن تهيج كل حواسي‬
‫الجنسية‪ ،‬فأبدو بالألوان كقوس قزح يضج بالحياة‪،‬‬                              ‫صمت يطبق على المكان كله‪.‬‬
                                                        ‫بعدما أنهيت فطوري على مهل شديد‪ ،‬أقوم بلباس‬
                                                       ‫ثياب شفافة تبرز مناطق أنوثتي وكأني على موعد‬
                                                       ‫غرامي مع أحدهم‪ ،‬أريد أن أمنح اليوم الموت جما ًل‬
                                                       ‫شهيًّا كي يتلذذ بي‪ ،‬وأرش عليه عط ًرا فرنسيًّا كان‬
                                                     ‫قد جلبه لي صديق أصبح فيما بعد حبيبًا من باريس‪،‬‬
                                                        ‫لا أذكر أين هو الآن! كان عاشقاً مول ًعا بي‪ ،‬فقدته‬
   84   85   86   87   88   89   90   91   92   93   94