Page 88 - merit 47
P. 88

‫العـدد ‪47‬‬                ‫‪86‬‬

                                                   ‫نوفمبر ‪٢٠٢2‬‬

    ‫لكنه لم يبحث عن أية مهنة أخرى‪ ،‬ولم يخرج‬            ‫هو مجرد ضيف غير رئيسي في حفل شعبي‪.‬‬
 ‫حتى من منزله‪ .‬بقي مراب ًطا فيه‪ ،‬وخائ ًفا من هذا‬      ‫لا أحد ينتبه إليه‪ .‬لم يكن يهمه أي شيء سوى‬
  ‫الفيروس العتيد‪ ،‬والذي تحول إلى غول معاصر‬             ‫ضربات الجرس التي كانت تحرره من عقوبة‬
‫غير مرئي‪ ،‬ولا يمكن التنبؤ متى سيغزو أجسادنا‪،‬‬         ‫السجن التي يقضيها بدون حكم قضائي‪ .‬يكون‬
                                                      ‫خروجه شبي ًها بالقفز‪ .‬يقفز بسرعة إلى الخارج‬
    ‫دون أن يكون في حاجة إلى جيوش جرارة‪ ،‬أو‬             ‫خو ًفا من أن يتم التراجع عن الإقرار بسراحه‬
    ‫أن يشحذ سيوفه‪ ،‬أو يشتري طائرات حربية‪،‬‬            ‫المؤقت‪ .‬غالبًا ما كان يغفو قلي ًل كي يتخلص من‬
 ‫ومضادات للصواريخ‪ .‬فهو المحارب الوحيد الذي‬            ‫الضغط‪ .‬حينما كان يطرح ذلك السؤال الساذج‬
‫يعتبر جي ًشا قائم الذات دون احتساب القتلى الذين‬    ‫المتعلق بالمهنة المستقبلية‪ ،‬لم تكن تسنح له الفرصة‬
 ‫أسقطهم‪ ،‬رغم أنه لم يخرج أية طلقة من بندقيته‪،‬‬      ‫للتعبير عن رأيه‪ .‬تنتهي الحصة الدراسية‪ ،‬وهو لم‬
                                                    ‫يجد الفسحة ليقول للجميع‪« :‬لا أريد أن أشتغل‪..‬‬
                      ‫بل إنه لا يمتلك أية بندقية‪.‬‬    ‫لا تغريني أية مهنة!»‪ .‬لو أتيح له قول ذلك‪ ،‬كان‬
  ‫لم تعد للبنادق أية قيمة‪ .‬انتقلت غزواته الصامتة‬    ‫الفصل سينفجر بالضحك‪ .‬لم يكن يعرف أن جان‬
                                                     ‫جاك روسو قد قال بأن الإنسان كسول بطبعه‪،‬‬
     ‫إلى كل بقاع الدنيا‪ .‬قتلى في كل مكان‪ .‬هذا ما‬      ‫وميشيل فوكو سيضيف أن الإنسان لا يشتغل‬
  ‫يحول الحكمة الشهيرة إلى «طحين ولا جعجعة»‬          ‫إلا خو ًفا من الموت جو ًعا‪ .‬وهذا مافعله هو أي ًضا‪،‬‬
   ‫عاك ًسا إياها‪ .‬لقد وصل إلى البلدات الصغيرة و‬    ‫حينما قرر أن يشتغل ناد ًل‪ .‬يشتغل حتى لا يموت‬

   ‫النائية‪ ،‬فاختبأ الناس في المنازل تاركين الحياة‬                                           ‫جوعا!‬
 ‫تعبر دون أن يتلقفوها براحات أياديهم أو تخفق‬       ‫لكن الأقدار كانت تقيه من الوقوع في تلك الورطة‪.‬‬

                          ‫لها أفئدتهم الصغيرة‪.‬‬       ‫هذه الأقدار لم تقيه من ورطة الاشتغال في مهنة‬
  ‫في كل مرة يسمع النادل «الزموا منازلكم!»‪ .‬هذا‬        ‫لا يحبها‪ .‬إنها سجنه الشخصي الذي لا قبل له‬
   ‫يعني أنه سيستمر في الاختباء داخل المنزل‪ .‬لم‬      ‫بالانفلات منه‪ .‬سجنه الذي يسلبه النوم في الليل‪.‬‬
                                                      ‫يستيقظ مذعو ًرا وهو يتنفس الصعداء لأنه نجا‬
    ‫يعد يتصل به رب المقهى‪ ،‬بل لم يعد يرغب في‬
 ‫سماع صوته‪ .‬لقد خمن بأنه لم يعد مرغو ًبا فيه‪،‬‬           ‫بأعجوبة من زبناء مفتولي السواعد يطالبونه‬
‫وربما بعد هذا الحجر الصحي سيحل مكانه نادل‬            ‫بالفكة دون أن يكونوا قد نفحوه أي شيء‪ .‬هاته‬
 ‫آخر‪ .‬وهذا يعني أن حياته قد انتهت قبل أن تبدأ‪.‬‬
                                                                ‫هي ورطته‪ :‬ورطة النادل التاريخية‪.‬‬
   ‫«وما الذي سأفعله؟» هكذا قال‪« .‬ربما يجب أن‬
  ‫أصبح بائع جوارب مثل أحمد!»‪ .‬غمغم وضرب‬                         ‫بعد كورونا‪:‬‬

     ‫براحة يده على جبهته‪« .‬ولكنني لا أعرف لغة‬         ‫والآن‪ ،‬إنه مكور في فراشه طيلة الوقت‪ .‬لم يعد‬
‫التجار الصغار‪ ،‬ولا أعرف الحذلقة!» أضاف‪« .‬فما‬           ‫يخرج أب ًدا‪ .‬في التلفاز يرددون لازمة‪« :‬ابق في‬
 ‫الذي عساي أن أفعله؟» أضاف بنرفزة‪ .‬ثم أنقذته‬         ‫منزلك!»‪ .‬وهذا يعني أن المقهى سيبقى مغل ًقا‪ .‬لا‬
‫نشرة الأخبار‪ ،‬إذ شرع المذيع في إحصاء المصابين‬       ‫يعرف متى سيتم رفع هذا الحجر الصحي‪ .‬فكل‬
                                                     ‫المقاهي مغلقة الآن‪ ،‬مما يعني أن الندل أصبحوا‬
  ‫والقتلى‪ .‬فبدأ يهرش فروة رأسه‪ ،‬ويفغر فاه من‬         ‫بدون مهنة‪ ،‬أي بدون دخل يضمن لهم العيش‪.‬‬
‫حين لآخر مستسلما تما ًما لمطبات العصر الجديد‪.‬‬      ‫ربما يكون الندل الآخرون قد وجدوا مهنًا أخرى‪.‬‬
‫غفا بعد ذلك ليستيقظ مذعو ًرا بعد أن مرت سيارة‬      ‫هذا ما كانت تقول له زوجته‪ .‬لقد تزوج قبل شهر‬
                                                   ‫من بداية الحجر الصحي‪ .‬كانت تصرخ في وجهه‪:‬‬
     ‫إسعاف من أمام منزله‪ .‬وهو ما يعني وجود‬            ‫«سر تخدم‪ ..‬شي نهار غا ناكلو هاذ التلفزة!»‪.‬‬
  ‫إصابات أخرى وربما قتلى آخرين‪ .‬لقد أصبحت‬

      ‫ورطته قبل كورونا نعي ًما أمام هاته الورطة‬
  ‫الضخمة التي لا يمكن أن تضاهيها سوى ورطة‬
  ‫المحكومين بالإعدام‪ ،‬أو الذين فقدوا حواسهم أو‬
  ‫أطرافهم في حادثة سير أو نتيجة مرض عضال‪.‬‬
   83   84   85   86   87   88   89   90   91   92   93