Page 91 - ميريت الثقافية رقم (28)- أبريل 2021
P. 91
89 إبداع ومبدعون
قصــة
كان المسلماني أكثر أهل بلدتنا اهتما ًما بحضور الجنائز بنكته ،وتنتهى بمشكلة كبيرة تحتاج إلى جلسات صلح
سواء أكانت جنازة مسلم أم مسيحي ،وعندما يسألونه كثيرة يتدخل فيها العمدة وضابط النقطة وشيخ الجامع
عن علاقته بما بعد الموت ينظر إليهم بعيون فارغة ولا وأبونا أسعد من كنيسة منطقة السيوف أقرب كنيسة إلى
يجيب ،لكنه يجيب على سؤال اهتمامه بوداع الموتى قائ ًل: بلدتنا ،إذ يقسم أحد المسلمين أن محمد المسلماني مسلم
أ ًبا عن جد ،واسمه دليل على ذلك ،ويقسم أحد المسيحيين
لأتاكد أنهم لن يعودوا ويقرفونا ،ملعون أبوهم! أن يوحنا مسيحي أصيل ،ولولا أن جد أبي أخرجه من
يبدو أن محسن وجرجس لاحظا توطد علاقة كل منهما دينه لكان عدد المسيحيين في بلدتنا قد زاد واح ًدا ،تحتد
بالمسلماني ،فتنافسا أكثر في التقرب إليه ،وهو ما أصبح النقاشات ،وتشتعل الحماسة ،ويشعر كل فرد أنه ينصر
شبه حمى في البلدة كلها ،الكل يحاول أن يقنع المسلماني
بدخول المسجد ،الوضوء ،الصلاة ،أو الذهاب إلى الكنيسة دينه ،ويرفع رايته ،ويرضي ربه ،إلا شخص واحد لم
يكن يشارك ،بل يشاهد باستغراب ،ثم بقرف ،وينهي
لإعلان الإيمان على يد الأب أسعد. كوب الشاي الذي يشربه ،ثم يقف ويبصق على الجميع
لم يكن المسلماني يفهم ما يدور حوله ،ويتعجب ممن مغاد ًرا القهوة والكلمات تخرج من فمه كبصاق متناثر:
يحدثونه عن الإيمان طول الوقت وهم يكذبون حتى وهم
يقسمون بالله والرب ،ويبيعون (بالفايظ) ،ويسرقون، «يلعن أبوكم كلكم»!
ويغشون بعضهم بع ًضا ،لكنه لم يصارحهم بما في نفسه، كان الولد محسن عبد المغني من أوائل الشباب الذين
فهو يعرف أنه لو بدأ الكلام فلن يصمت حتى يحكي كل حصلوا على دبلوم الزراعة في بلدتنا ،وأثناء انتظاره
ما يعرفه بما يمس ذم ًما وأعرا ًضا كثيرة. للتعيين في الوحدة الزراعية يقضي معظم وقته في
كان المسلماني يسير مع محسن باتجاه المسجد ،محسن المسجد ،يقرأ القرآن ،ويعطى درو ًسا في السيرة النبوية
مبتسم كمن حقق نص ًرا مبينًا ،وحوله بعض رفاقه من لأهل البلدة من وقت لآخر ،بعد أن استأذن الشيخ حامد
ذوى الدقون الطويلة ،بدأ الأطفال ثم الشباب يسيرون
خلفهم ،النساء يتابعنهم ،شعر جرجس بالخطر فأسرع المسؤول عن المسجد.
هو وبعض رفاقه من المتدينين يحاول أن يتدارك الموقف، محسن عبد المغني من أوائل من أطالوا ذقونهم وقصروا
ثيابهم من شباب البلدة ،كان يتجاهل سخرية بعض أهله
طلب جرجس من المسلماني أن يتحدثا على انفراد ،رد ومنهم والده ،وبعض كبار البلدة ،وغمز النساء على هيئته
محسن بالرفض ،غضب جرجس من تدخل محسن فيما
لا يعنيه ،أكد محسن أن أمر المسلماني يعنيه ويعنى كل الغريبة ،لكن السخرية بدأت تقل تدريجيًّا ،وتتحول إلى
احترام يشوبه خوف ،وكتم الشيخ حامد في نفسه ما
مسلم غيور على دينه يبغي رفعة شأنه ،أيد أصحاب كان يريد أن يطلبه من محسن بالتوقف عن إعطاء دروس
الذقون محسن مكشرين عن أنيابهم ،فكشر رفاق بالمسجد ،فقد كثر عدد من أصبحوا على هيئة محسن ممن
يزورونه من خارج البلدة ،ثم من أبناء البلدة ،والغريب
جرجس أي ًضا عن أنيابهم ،ولم تمر دقائق حتى كانت
البلدة كلها فريقين من أنياب متواجهة. الصلة الوطيدة التى لم تخف على أحد بين محسن
وضابط النقطة.
نظر المسلماني إلى الجميع ،حاول أن يهدئهم ،فلم يستمع
إليه أحد ،بدأت تظهر شوم وسيوف فجأة ،وظهر من لم يرصد أحد بداية التقارب بين محسن والمسلماني ،لكن
الجميع لاحظوا فجأة كثرة جلوسهما م ًعا على القهوة،
بعيد ضابط النقطة ومعه بعض العساكر ،يشاهدون دون
تدخل. وسيرهما في الغيطان ،كان محسن يتحدث طوال الوقت،
والمسلماني يستمع ،لكن ذقن المسلماني لم تطل ،كعادته
صعد المسلماني درجات سلم المسجد ،طلب من
خادم المسجد أن يناوله الميكروفون ،فأعطاه له ،تلقي يحلقها مرة كل أسبوع ،وجلبابه لم يقصر.
الميكروفون بصاق المسلماني وهو يقول للجميع :يلعن كان جرجس البقال هو أكثر مسيحيي بلدتنا تدينًا ،وهو
صديق مقرب للأب أسعد ،وقد لاحظنا أنه أي ًضا يجلس
أبوكم كلكم!
ثم سار مبتع ًدا وسط ذهول الجميع ،الذين نظروا إلى كثي ًرا مع المسلماني ،وأحيا ًنا يأخذه معه إلى منطقة
بعضهم البعض قلي ًل ،ثم انفجروا في الضحك حتى سقط السيوف بحجة احتياجه لمن يعاونه في جلب بضاعة
بعضهم على الأرض. للمحل.